
قلت في العام 2007 عن الكاتب الأردني الساخر يوسف غيشان، في احتفال حضره حشد كبير من عشّاق الكتابة الساخرة بمناسبة صدور كتابه “أولاد حارتنا… الأعمال الهاملة”، إنه لا ينتمي إلى أولئك النفر من المتحقّقين الذين يدّعون الرضا عن الذات، لأنه مبدعٌ نزقٌ وجارحٌ وأصيل، وأنه لن ينحدر يوماً إلى تلك المحصّلة المؤسفة من الزهو الكاذب غير اللائقة بسيرته القائمة من حيث المبدأ على القلق، وقد تبنّى على الدوام، في مقالاته وأعماله الأدبية، هموم المهمّشين والبسطاء، وحكى عن أوجاعهم، تماماً مثلما قد يحكي أيّ فلاح كهل في أيّ قرية أردنية نائية وهو جالس على كرسيٍّ من القشّ بلا ظهر عند باب دكّانة، يتحلّق حوله رجال الحارة يصغون لـ”السواليف” بانتباه، ويشربون كؤوس الشاي شديد الحلاوة رغم المرار الطافح في أيامهم.
واليوم، يفاجئ غيشان الجمهور والوسط الثقافي بروايته “ملحمة علهامش” (الدار الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2025)، في تلاعب وتناصّ وتجاور مع ملحمة جلجامش. وقد اختار مفتتحاً روايته العمود الثالث/ اللوح العاشر من “جلجامش”، الذي تضمّن نصيحة سيدوري صاحبة الحانة إلى جلجامش بحياة قانعة، سعيدة، خالية من الأحلام المستحيلة والطموحات غير القابلة للتحقّق.
والحقّ أنني لم أتخيّل مطلقاً أن يوسف غيشان سيكتب روايةً بهذه الحرفية والبراعة والتأنّي والعمق والانسيابية والتماسك والجمال. ليس لافتراض قلّة خبرته أو تواضع موهبته، فهو قاصّ من طراز رفيع، وكاتب مقالة يومية ساخرة متمكّن من أدواته، إضافة إلى ثقافته العالية وقراءاته في الفكر والأدب، واهتماماته بالفنون، لكنّه ببساطة شخص ملول، “روحه في خشومه”، كما نقول في الدارجة الأردنية، سيوحي لك في كل مرّة تلاقيه أنه على عجل، وأن ثمّة أمراً جللاً أكثر أهمية منك ينتظره في مكان آخر. يتكلّم بسرعة ويمشي بسرعة ولا يطيق المقام في مكان واحد مدّةً طويلةً، غير أنه أقام في نصّه الروائي البديع بما يكفي ويفيض كي يضيف إلى المكتبة الأردنية عملاً روائياً استثنائياً مختلفاً شكلاً ومضموناً، لا يخلو من السخرية السوداء وخفّة الظلّ، فتجد نفسك تغرق في الضحك وأنت منهمكٌ في القراءة ما قد يثير ريبة الآخرين بقواك العقلية. سيذكّرك غيشان بالتركي عزيز نيسين في كتابته الكوميديا السوداء المحمّلة بالإسقاطات السياسية، وبالمصري جلال عامر الذي اعتمد أسلوب التداعي الحرّ، والتكثيف الشديد، والنقد اللاذع والانحياز إلى قضايا المهمّشين والبسطاء من أبناء المجتمع.
في رواية “ملحمة علهامش”، التي يمكن اعتبارها سيرة الطفولة والشقاء، ثمّة سيرة ذاتية غير منفصلة عن سيرة المكان أو الزمن، وثمّة ازدحام غير خانق بالشخصيات المُلهِمة. “كاترينا” العزباء وشقيقتها الأرملة “زريفة”، الجدّ والأمّ والأب وزوجة الأب، والخال المناضل خرّيج السجون، ورفاق المدرسة، ونائب البرلمان والقس، ولكل شخصية حكاية تستحقّ روايةً منفصلةً.
يروي يوسف غيشان طفولته الشاقّة في ربوع مادبا، حيث الفقر والحرمان وشظف العيش الذي عانى منه معظم سكّان المنطقة. يحكي كل شيء منذ لحظة ميلاده حتى مرحلة الشباب، ويعود أحياناً بأسلوب “فلاش باك” إلى قصص الأوّلين منذ العهد العثماني والاستعمار البريطاني، ويرصد هزيمة حزيران (1967) وتدفّق اللاجئين، والأثر السياسي والاجتماعي والديمغرافي في الأردن، ويلقي الضوء على روح الودّ والمحبّة والتكافل بين الناس على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمناطقية.
“ملحمة علهامش” نصّ ذكي ورشيق، حافل بالمشاهد المتسارعة الحذقة، ليصلح بسهولة للمعالجة الدرامية سينمائياً أو تلفزيونياً، وهو إضافة نوعية إلى الرواية الأردنية، ولعلّها الرواية الأولى التي تتلاعب بمشاعرك بخفّة ساحر، وتنقلك بومضة بين حالتَي الضحك والبكاء، لكنّها كفيلة باستفزاز المخيّلة واستدعاء ذكريات زمن صعب بالعذابات على أنواعها، غير أنه ينطوي على كثير من الحبّ والحنين.
المصدر: العربي الجديد






