
في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي الجديدة تأكيدٌ على التراجع عن فكرة إسقاط الأنظمة وخوض حروبٍ لفرض التغيير و”نشر الديمقراطية”، وهي سياسات أسفرت عن تكاليف كبيرة، سيّما في حربَي العراق وأفغانستان. وبعد ضرب البرنامج النووي الإيراني وتقطيع أذرع إيران في المنطقة من لبنان إلى سورية، وإضعافها في أكثر من مكان، يُترك أمر التعامل معها لدول المنطقة، مع التأكيد على ثوابت: الحفاظ على حرية الملاحة في مضيق هرمز والبحر الأحمر، ومنع المنطقة من أن تصبح مصدراً لـ”الإرهاب”، وبالتأكيد ضمان أمن إسرائيل وبقائها القوة المتفوّقة استراتيجياً. هل تُطمئن هذه النظرية دول المنطقة؟ إسرائيل استثناء، استثناء تاريخي مستمرّ لدى الولايات المتحدة. يحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها، ولِبقائها متفوّقةً يمكن أن تُقدِم أيُّ إدارة أميركية على أيَّ شيء، ولا تخرج الوثيقة عن هذا السياق. لكن إسرائيل هي استثناء مميّز باستباحتها كل السياسات والاتفاقيات والاستراتيجيات.
نحن مقبلون على جولة جديدة من الحرب على إيران، وفوضى أوسع في المنطقة
وهنا ثمّة نقطة خلاف جوهرية مع الإدارة الأميركية الحالية، إذ تُصرّ إسرائيل على إسقاط النظام في إيران لا يمكن إبقاؤه والتعايش مع احتمال إعادة تقوية دوره في الداخل والخارج، رغم كل ما أصابه وما لحق بإيران “ومحورها”. ولضمان الحفاظ على حرية الملاحة في مضيق هرمز والبحر الأحمر ثمّة مخاطر إيرانية ينبغي التعامل معها. إيران قادرة على التحكّم بمضيق هرمز، وإيران تدعم الحوثيين في اليمن. صحيحٌ أن أميركا نأت بنفسها في مرحلة معيّنة عن توجيه ضربات لهم، لكن تولّت إسرائيل المهمة ولا تزال تقوم بـ”بواجبها”.
وتخشى دولٌ في الخليج القدرات الإيرانية ولا تقدر على مواجهتها، وهي أمام خيارَيْن: التهدئة مع إيران، ولذلك ذهبت إلى بكين، أو الرهان على أميركا وإسرائيل. أميركا تقول: “قمت بواجبي. حميتكم. دافعت عنكم”. وإسرائيل تُزايد: “أنا من فعلها”. “انجرّت” أميركا إلى العملية، وضربت البنى التحتية النووية وغيرها، والأذرع الإيرانية في غزّة ولبنان، وطردتها مع فرقها من سورية، وسأكمل هذه العملية. لكن عليكم المشاركة بكل الوسائل الممكنة، فهذا التردّد في التطبيع ومحاولات فرض الشروط في العلن، أو الاستقواء بالرهان على أميركا لحمايتكم، سياسة أثبتت أنها لا تجدي نفعاً. نحن أسياد المنطقة، وأميركا التزمت بذلك في استراتيجيتها الجديدة. أنتم من دوننا غير قادرين على فعل شيء، وأوضاعكم الداخلية نعرفها: غير مستقرّة، وثرواتكم النفطية لم تعد ورقةً يمكن استخدامها في وجه الآخرين، والعنوان واضح في هذه المنطقة في الاستراتيجية الجديدة.
نحن سنكمل الحرب ضدّ إيران، وهذا سيكون مدار بحث مع الرئيس ترامب في الأيام المقبلة، وعلى قاعدة أننا مصرّون على اقتلاع جذور الخطر. ولضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر لا بدّ من ضرب الحوثيين. التهدئة من بعضكم مع إيران لمعالجة المسألة الحوثية لن تنفع، نحن معنيون بهذا الأمر، ولا نقوم بضربهم من أجلكم. نحن ندافع عن إسرائيل وأمنها، وأنتم تستفيدون، وعليكم أن تقبلوا باستراتيجيتنا أيضاً.
ومع تراجع الاستراتيجية الأميركية عن أهدافها التقليدية لن يكون أمامكم إلا الاستراتيجية الإسرائيلية. وإذا كانت أميركا لا تريد تغيير النظام، فهي أكّدت الاستمرار في مواجهة الإرهاب، وإيران هي راعيته وأمّه. وقد بدأت أميركا بتصعيد عملياتها في سورية ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ولن تتوقّف. ونحن لن نتوقّف. والمعركة طويلة. ولا بدّ من استئصال جذور الإرهاب لضمان أمننا، وعليكم أن تقوموا بدوركم.
وإذا كانت النظرية السابقة تقول إن إيران هي مرجعية الشيعة في العالم، وإذا التزمت وفت، وثمة مركز قرار واحد فيها (وقد راجت فترة). ورغم عدم تدخّل إيران مباشرة في حرب غزّة ولبنان، فهذا لا يعني أنها لم تكن الداعم الأساس لمن واجهناهم هناك. ونحن لم نكن ولن نكون ملتزمين بتلك النظرية. نحن موجودون بقوة في معادلة الحوثيين ومستقبل اليمن، ومواجهة الإرهاب وضمان حرية الملاحة.
والعالم العربي الذي عانى من الإرهاب (ولا يزال) عليه أن يتحمّل مسؤولياته ويكون شريكاً، وليس أمامه إلا استراتيجيتنا. بعضكم يفهم اللعبة. هذا مشهد السودان، هذا مشهد ليبيا، هذا مشهد اليمن، والاستعدادات الجارية بعد تصحيح الوضع في حضرموت والمهرة لإعادة تصويب المسار، وحصار الحوثيين والسيطرة على القرار وإنهاء الحالة الشاذّة القائمة، ولو أخذ ذلك وقتاً وكلّف ما كلّف وخلّف ما خلّف”. في إشارة إلى التقسيم.
مع تراجع الأهداف الأميركية التقليدية، يُقدَّم الواقع كما لو أنه يدفع المنطقة نحو “الاستراتيجية الإسرائيلية”
باختصار، الموقف الإسرائيلي هذا يؤكّد نظرية تفتيت المنطقة وتعميم الفوضى فيها داخل البيت السُّني، وبقاء ساحاته مفتوحةً للحروب العربية – العربية، بالتلازم مع شعار “الحضن العربي”. وهذا لا يخدم إلا إسرائيل. والفتنة السُّنية – الشيعية مشتعلة، وإثارة الغرائز المذهبية والطائفية في كل مكان. وقد تأخّر كثيرون في قراءة هذا المشروع ومخاطره. وثمّة من لا يقتنع به الآن، وثمّة من يدخل شريكاً فيه تحت عناوين مختلفة، واهماً أنه صاحب دور وشريك رئيس في “الإبراهيميات” التي تكرّس “السلام” و”الأمن” و”الازدهار” و”الأخوّة” و”الإنسانية”. ومثال إسرائيل في هذا السياق قائم في غزّة والضفة، وثمّة إسرائيليون يتحدّثون عنه ويصفونه بـ”الإرهاب”، وشاهدنا الملايين في شوارع أميركا والغرب ينتفضون ضدّه.
عندما ارتكب صدّام حسين خطيئته الكبرى باحتلال الكويت، وجاء التحالف الدولي وحرّرها، وشارك فيه العرب، خرجت نظرية تقول: “لقد جاء الأصيل، الأميركي، فانتهى دور الوكيل، إسرائيل”. كتبتُ يومها دراسة مطوّلة عن النتائج الكارثية لما خلّفته الخطيئة، وقلت: “هذا كلام تبسيطي يحمل تمنيات وقراءة سطحية لا مكان لها. لقد جاء الأصيل ليحوّل الوكيل في المنطقة إلى أصيل يدير شؤونها، يفرض هيمنته عليها، ويبقى سيّداً متفوّقاً مميّزاً، أي إسرائيل”. ها نحن أمام هذه الحالة المستمرّة اليوم. فهل ثمّة من يقرأ، ويتبصّر، ويحاول إنقاذ ما تبقّى؟ مقبلون على جولة جديدة من الحرب على إيران، وفوضى في المنطقة.
المصدر: العربي الجديد






