
كيف استطاعت قوى العولمة تفكيك المجتمعات العربية؟؟ وبالتالي وصلت إلى أن تكون أجيالها الجديدة سلبية لا مبالية ولا منتمية تكاد تفقد وعيها بهويتها والتزامها بقيمها ومتطلبات التعبير عنها وحمايتها..
سؤال أساسي يتبادر إلى الذهن حين المقاربة الموضوعية لواقع حال المجتمعات العربية.. فيثير في ذاته سؤالان آخران يرتبطان به مباشرة:
# الأول: هل المجتمعات العربية مفككة أصلا؟؟
# الثاني: وهل العولمة وحدها هي المسؤولة عن تفكيكها؛ إن كان حصل؟؟
بالنسبة للسؤال الأول :
إن عودة إلزامية للمقارنة بين حال مجتمعاتنا العربية قبل نصف قرن وحالها اليوم ، تجعلنا نرى وندرك كم تراجعت مظاهر وحدتها وتماسكها الاجتماعي داخل كل جزء من الوطن العربي الكبير وفيما بين أبناء الأجزاء كافة..معيار واحد أساسي يكفي لإدراك الفارق بين الحالين :
## فعالية الحركة الشعبية العربية في كل مستويات وميادين الحياة والعمل..كانت حركة فاعلة داخل الجزء الواحد وككتلة شعبية عربية واحدة متفاعلة فيما بينها متضامنة مؤثرة وفاعلة تشارك بقوة في رسم توجهات وطنية وقومية مشتركة وفرض وقائع إيجابية ، وفي لجم سياسات وأحداث معاكسة ومعادية.. فكان كل حدث مأساوي في جزء يجد صداه تفاعلا إيجابيا في باقي الأجزاء تضامنا ومشاركة شعبية فاعلة رغم كل إجراءات التعسف والقهر والمعاكسة التي تقوم بها وتمارسها معظم قوى النفوذ والسلطان .. أما حالها الراهن فالواقع ووقائع الأحداث الدامية والأليمة والضعف الشديد في تفاعل الواقع الشعبي معها ينبئ بما وصلت إليه من تراجع يكاد يكون تلاشيا في ميادين الفعل والتأثير والفاعلية ، حتى مع احتفاظ مفترض بمشاعر الجماعة المتماسكة المنتمية إلى وجود قومي واحد ومصير مشترك جامع..أو تعبيرات نظرية عنه في موقع هنا وأحداث غير فاعلة هناك..
لا يعني هذا أن القوى الشعبية كانت غائبة تماما عن أي رد فعل أو تفاعل مع الأحداث ولكنه كان تفاعلا غير مؤثر او فاعل في مجرى الأحداث العامة وسياقها التصاعدي..المثال الواضح الفاضح في هذا المعنى كان في حرب التدمير والإبادة الجماعية التي يشنها العدوان الصهيوني على غزة هاشم وفلسطين العربية..ومع أن كثيرا من التحركات الشعبية التضامنية قد حدثت وتحدث في معظم أنحاء الوطن العربي ؛ من تظاهرات واعتصامات وتبرعات ومقاطعات ؛ إلا أنها بقيت أقل من مستوى الأحداث ( وهذا له تفسيراته الموضوعية سيأتي ذكرها في مكان آخر) ..ثم إنها لم تكن ذات فاعلية وتأثير لسبب أساسي يتمثل في أنها لم تعد تمثل حركة شعبية عربية متماسكة..بل كانت حركات مجزأة موزعة في كل بلد ؛ بل حتى مجزأة على مستوى البلد الواحد..( فضلا عن أسباب أخرى كثيرة..)..
هذا لا يعني بالتأكيد أن كل المجتمعات العربية تعاني من ذات المستوى والعمق في مجال التفكك أو ضعف الفعالية..يختلف الأمر بين بلد وآخر تبعا لعوامل كثيرة بعضها تاريخي يتعلق بمستويات تقدمها وتطور العلاقات بين أبنائها كجماعة مشتركة وكمجتمعات مفتوحة أو مغلقة ؛ وأغلبها يعود لحال الأنظمة والقوانين التي تحكمها والسلطات التي تدير شؤونها وأمورها..إن مظاهر التفكك المجتمعي كثيرة متشعبة ولكنها متكاملة تصب في نتائج متشابهة..( سوف نعود إلى هذه المظاهر بالتفصيل لاحقا )..
يمكن تقسيم تاريخ الحركة الشعبية العربية الحديثة إلى مرحلتين :
## ما قبل منتصف سبعينات القرن العشرين وما بعده ## ..
ثم إنطلق قطار التراجع والتدهور ولا يزال مستمرا إلى اليوم..
تدهورا كان تدريجيا ولكنه متصاعدا بفعل أسباب كثيرة يأتي قمع الأجهزة الرسمية في مقدمتها..
في المرحلة التالية لمنتصف سبعينات القرن الماضي : انطلقت بوضوح أكبر وفعالية أشد وتأثير أعلى ؛ موجات من الغزوات المتلاحقة لكل أسس العقل العربي وثقافته الجامعة ولكل ما هو جامع وموحد ولكل ما يصنع المناعة ويحمي الجماعة من عناصر القوة والقدرة .. فكان الثمن الفادح ضعفا في الانتماء – والتعبير عنه – كما تشوها في وعي الهوية ومستلزمات حمايتها وتعزيزها..
وقبل الحديث عن كيفية نجاح العولمة في تفكيك مجتمعاتنا العربية ؛ نؤكد ما قلناه سابقا وفي أكثر من موضع وأكثر من مقام ؛ أن هناك عوامل داخلية كثيرة تحالفت مع قوى العولمة – بقصد أو بغير قصد – لتمكينها من إتمام التفكك المجتمعي ..يأتي في مقدمتها القوى الإقليمية التي بنت مكانتها ووظيفتها واكتسبت مبررات وجودها على أساس من ذلك التحالف الذي اقتضى أمرين أساسيين :
– وحدة المصالح بين قوى الداخل وقوى العولمة..بحيث أصبح مصيرهما مشتركا ووجودهما مترابطا لا يستغني أحدهما عن الآخر لنجاح مهماته وأهدافه واستمرار سلطانه وسلطاته..
– حماية قوى العولمة لقوى الداخل لتستمر في أداء وظائفها المطلوبة في خدمة أهداف قوى العولمة والمتمثلة في إبقاء السيطرة والتحكم وسلب القرار والإرادة والمقدرات..
أما قوى الداخل فليست جميعها في النظام الإقليمي الرسمي ؛ فكثير منها نخب وفعاليات فكرية وثقافية ومالية وسياسية واجتماعية وإعلامية ؛ باتت في موقع الموالاة لقوى العولمة وأهدافها الخبيثة ، بحكم عوامل متعددة أهمها وأخطرها ؛ تبعيتها الفكرية لعقل العولمة وأسسه ومقوماته ومفاهيمه حتى صارت مصالحها أيضا مرهونة ببقاء وتعزيز مصالح قوى العولمة ذاتها..
وهكذا تحالف قوى العولمة مع قوى التجزئة الإقليمية الرسمية النظامية وقوى التجزئة الإقليمية النخبوية غير الرسمية..
وتبقى قوى العولمة هي الأساس فهي صاحبة المشروع والمنهج والإمكانيات الهائلة والمصالح المتشعبة المتشابكة..
كيف إذن ، استطاعت قوى العولمة النفاذ في المجتمعات العربية والتسلل إلى عقول أبنائها ؛ فتمكنت بالتالي من تفكيكها وتهميش إرادتها وقدرتها على الفعل والتأثير..
ومن الضرورة بمكان التأكيد أن مثل هذا الوضع قد تم بشكل تراكمي وإنما متصاعد..ولم يحدث بين عشية وضحاها..فهو خلاصة عمل طويل وجهود جبارة وإمكانيات هائلة وتخطيط عالي المستوى وتنظيم فائق الدقة وإصرار على بلوغ المنال ، لا مثيل له..
كيف تم ذلك ؟؟
1 – اضمحلال الدولة :
تم تنفيذه على مراحل :
أ – تقويض سلطة القانون :
كان الركن الأول في برنامج قوى العولمة لتفكيك مجتمعات العرب :
# العمل على تهميش الدولة ومؤسساتها وتقويض صلاحيتها وفعاليتها حتى الاضمحلال ..وهذا يعني تقويض سلطة القانون أولا حتى يقع الناس في فخ الفوضى الاجتماعية وما تستتبعه من تضارب وتناقض مصلحي وتناحرات جماعية وفردية تشكل مدخلا لازما لإطلاق عملية التفكيك وإنجاحها..
بدأ تقويض سلطة القانون بإفساد القضاء وتعيين قضاة من المحسوبيات على قوى السلطة وأجنحة النظام السياسي ممن يعرفون بعدم نزاهتهم وعدم كفاءتهم وبالتالي استعدادهم لمسايرة المتدخلين ذوي المصلحة والهدف معا ؛ في تقويض سيادة القانون..
فالقضاء هو الملاذ الأول والأهم للمواطن لتحصيل حق مهدور أو لبت خلاف أو تنازع من أي نوع..أما استقلالية القضاء ونزاهته فهما الضمان الأكيد والأسلم لممارسة صلاحياته في تطبيق القانون دون مواربة أو غش أو تحايل. الأمر الذي يطمئن المواطن إلى فعالية الدولة ومؤسساتها حينما يحتاج إليهما في أي أمر..وهكذا يبقى القانون سائدا والطمأنينة متحققة فوق أية إعتبارات مصلحية أو شخصانية خلافية من أي نوع..
وحينما تتدخل السياسة في القضاء لفرض محسوبيات وتعطيل قرارات وتقديم إغراءات واستخدام التهديد أو الابتزاز والرشوة والضغط ؛ يتسلل الفساد إلى جسم القضاء ما يعني بداية تحلله من تنفيذ القانون فيفقد الأخير سلطته وبالتالي صلاحيته..وهكذا تشرع أبواب التحلل من حكم القانون ويترك الناس لرغباتهم وأمزجتهم وأساليبهم الذاتية لتحصيل حقوق أو فض منازعات..
ثم يأتي تفريغ الممارسة من تطبيق القانون في كل المستويات الإدارية والتنظيمية..بالتعيينات حسب الولاءات الشخصانية والمنافع الذاتية .. وحينما يتم هذا تعجز المؤسسات الرسمية عن ممارسة وظيفتها وعلاقتها النظامية السليمة بالمواطنين..مما يزيد في إنهيار ثقة المواطن بالدولة ليصل إلى مرحلة اليأس منها ثم الإقتناع بلا جدوى اللجوء إلى القانون ..ولا يبقى أمامه سوى استعمال قدراته الشخصية لتحصيل حقوقه وإبعاد الضرر عنه ؛ وفق ما يراه هو ذاتيا مصلحة شخصية له أو ضررا يعود عليه..
ب – إفساد النظام السياسي :
– بالتعيين بناء على المحسوبيات والعلاقات الشخصية دون احترام مبدأ الكفاءة والخبرة والنزاهة..فيكون الولاء للذين يعينون بالمحسوبية والتفضيل دون الكفاءة والحق ؛ وليس الولاء للقانون ومهمات الوظيفة حسبما تنص عليه جداولها..
– بالمحاصصة : إن توزيع السلطة السياسية على الأسس الطائفية والمذهبية إنما يمثل ذروة الفساد والعجز عن تطبيق القانون..حيث يكون الولاء المذهبي أو الطائفي أو العشائري أو الشخصي هو الفيصل في تقرير الحق وفصله عن الباطل..فتتحقق بذلك أيضا خطوات تنفيذية تشكل خطرا محدقا بمبدأ تطبيق القانون وإمكانية اللجوء إليه..
إن تشكيل السلطة السياسية على قاعدة المحاصصة من أي نوع ؛ ينفي عنها شرعية القانون ويحولها إلى جهاز يديره تبادل المنافع والحصص دون إعتبار لمبدأ العدالة الذي يفترض أن تحميه وتفرضه سيادة القانون..فالمحاصصة أصلا مبدأ ضد القانون ويلغيه ويبطل مفاعيله ويحطمها..
وقد تكون المحاصصة ذات خلفيات شخصانية أو عشائرية أو فئوية تبعا لطبيعة النظام السياسي وكيفية تشكله وتطوره والقوى المتداخلة في تكوينه والقوى التي تؤمن له الحماية والقدرة على الاستمرار بعيدا عن مبدأ الشرعية الشعبية..وقد تكون توزعات أمنية وتوازنات عسكرية بين مراكز للقوى والمصالح المتعددة .. أيا تكن طبائع المحاصصة فهي في المحصلة تلغي القانون وتحول دون تطبيقه..
إن أي نظام يقوم على توزيع السلطة والمنافع والنفوذ بالحصص كما تفرضها طبيعة توازنات مراكز القوى التي تشكل النظام ؛ إنما هو بالضرورة غير قابل بتطبيق القانون. فيفتح بالتالي ، الأبواب مشرعة لكل أنواع التحايل على القانون لتحقيق المكاسب بصرف النظر عما إذا كانت مستحقة أم لا..
ج – إهمال الخدمات الحياتية للمواطنين وتعسير سبل المعيشة وتحصيل مقوماتها..
وحينما لا تؤمن الدولة حياة المواطنين من حيث ما تستلزمه من خدمات ورعاية صحية واجتماعية ؛ يضطر المواطن إلى اللجوء للمتبرعين والأغنياء وجمعيات الإغاثة للحصول على ما يعينه ويقيه العوز..فيتحول تدريجيا إلى أن يصبح أشبه بمتسول يعيش عالة يفقد إحساسه بالانتماء للوطن وتغلب عليه مشاعر اليأس والإحباط من جهة ومشاعر الحقد والرغبة في الانتقام من جهة أخرى..أو أنه يلجأ للقيام بأعمال إضافية لتأمين معيشته ومن يقع في إطار مسؤوليته ؛ فيستنزف كطاقة عقلية وجسمانية فلا يعود يقوى على التفكير والتمحيص والتقييم والنقد والمحاسبة ..فيفقد بذلك إحساسه بأنه مواطن له حقوق ويسقط بالتالي إحساسه بما يترتب عليه من واجبات..وفي كلتا الحالتين
تسقط فكرة الدولة والقانون من اعتباراته وحسبانه..
د – افتقاد الأمان : بإضعاف وظائف المؤسسات التي تحمي المواطن وتؤمن له السلامة الشخصية والطمأنينة المجتمعية..وحينما يفقد ثقته بما يجب أن يكون حاميا له ؛ يفقد أمنه وأمانه وطمأنينته ؛ الأمر الذي يدفعه إلى تأمين أمنه الشخصي بأية وسيلة وهي حتما ستكون وسيلة على حساب شرعية القانون والأمن.
فيقع فريسة لأية جماعة أو مركز قوة أمنية تضمن له حماية ستكون حتما في مواجهة الجماعة وأمنها وليس بالتكامل معها..
هه – الإثراء غير المشروع :
كنتيجة للخلل الوظيفي بدءا من التعيين بالمحسوبية وصولا إلى توزيع المغانم بالولاءات الشخصانية ؛ مرورا بكل أنواع الكسب المخالف للقانون أو الناتج عن أعمال غير واضحة وغير شريفة ؛ مما يخلق تفاوتا عاليا في مستوى الدخل بين الأفراد ويقود بالتالي إلى تشكيل مراكز قوى مالية تتدخل بما تملكه من أموال لتعطيل القوانين وتحقيق المكاسب دون وجه حق وتمرير الصفقات المشبوهة لمزيد من الكسب ؛ عدا عن تحولها إلى مراكز استقطاب للنفوذ مما يعزز سطوتها ويغطي تجاوزاتها للقوانين ؛ الأمر الذي يفاقم الاضطراب في السلم الاجتماعي ويهدد الأمن الاجتماعي والسلام الأهلي..فيعزز الإنقسام المجتمعي ويساهم في تفكيك المجتمع كوحدة إنسانية متجانسة..
و – سقوط مبدأ المحاسبة والثواب والعقاب : فيتحول المخلص إلى مهمش والفاسد المنحرف إلى صاحب نفوذ ويفقد المخلص الدافع للعطاء والعمل ويرتقي المنافق والفاسد في سلم الوظيفة والمكانة والقدرة والنفوذ ليصبح مرجعا في كل أمر..
# خلاصة: لهذه العوامل مجتمعة تتلاشى فعالية الدولة لتصل تدريجيا إلى مرحلة الاضمحلال حيث تسود النزعات الفردية وتتفكك صلة المواطن بالدولة ليفقد ثقته بإمكانية العيش تحت حماية القانون – المغيب – ليغدو مجبرا للسير في الخيار الوحيد المتبقي أمامه وهو خيار الاعتماد على الذات الفردية بديلا عن الدولة – المضمحلة – ..
وتلك هي أهم وأخطر مراحل التفكك المجتمعي لأنها تضع كل فرد في مواجهة شاملة مع الآخرين بحثا عن حقه المهدور أو حسما لخلاف أو تنازع في أي أمر مع أي أحد..
إن اضمحلال الدولة هو المدخل الأساسي لتقويض سلطة القانون وهو ما يتيح كل الفرص لكل أنواع التوتر والقلق والاضطراب الاجتماعي وفقدان الأمان وانعدام الثقة ..فتدخل الجماعة في صراعات داخلية من كل نوع لا يحدها سقف ولا يردعها رادع..والأخطر فيها حينما تتحول السلطات النافذة إلى قوة دفع وتحريض إلى مثل هذا الوضع وإلى تعميق الصراعات وتعزيز المنازعات ليبقى الجميع تحت السيطرة والتحكم بما يفعلون من قبل من يملك مفاتيح التوجيه والتدخل والتأثير..
” إن سيادة القانون هي الضمانة الأساسية للأمان الاجتماعي والتماسك المجتمعي والعطاء الحر والإحساس بالانتماء الى الجماعة وإلى الوطن. وهي المدخل إلى احترام الهوية والالتزام بمقتضيات التعبير عنها وحمايتها والدفاع عنها ..
– يتبع –






