الجولة الأخيرة من اجتماعات اللجنة الدستورية السورية في جنيف الأسبوع الماضي، تضمنت جديداً شكلياً اقترب من حافة المضمون، مع استمرار سلوك قديم بين المتفاوضين بتجنب حصول عمل تراكمي، وسط حرص من الرعاة والمتفاوضين والوسطاء على إبقاء عجلة العملية دائرة كأن بعضهم يريدها «ورقة توت» لإخفاء الاستمرار في مشاريعه في سوريا.
جديد هذه الجولة، وهي الثالثة منذ تشكيل اللجنة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، هو حضور وفد الحكومة إلى جنيف وتخليه عن مطالبته السابقة بإقرار وفد المعارضة «الركائز الوطنية» قبل «مناقشة الدستور» وتتضمن «رفض العدوان التركي والتمسك بوحدة الأراضي السورية والسيادة ورفض المشروعات الانفصالية، إضافة إلى رفض الإرهاب». لكن الوفد برئاسة النائب أحمد الكزبري، اقترح مدخلاً جديداً بـالاتفاق على «الهوية الوطنية» ومحدداتها قبل الدخول في مناقشة الدستور.
يمكن وضع هذا «الإنجاز الشكلي» بسبب التدخل الروسي، إذ إن المبعوث الرئاسي ألكسندر لافرينتيف، زار دمشق والتقى الرئيس بشار الأسد لضمان توفير «إيجابية» من الحكومة في اجتماعات جنيف. الجديد أيضاً، أنها المرة الأولى التي تجري اجتماعات اللجنة بحضور مستشار روسي في قاعة الاجتماعات في مقر الأمم المتحدة. المستشار كان يسجل ملاحظاته ويتحاور مع المشاركين من جميع الأطراف، من دون أن يتدخل في فرض مقترحات محددة على الأجندة. أي، نجحت موسكو في الحفاظ على انعقاد الاجتماعات رغم تحديات «كورونا»، لكنها لم تتدخل إلى الحد الذي تضمن فيه حصول اختراق. عموماً، حضور المستشار الروسي، يسمح بتقديم مطالعة دقيقة على طاولة وزير الخارجية سيرغي لافروف، مع المبعوث الأممي غير بيدرسن، في موسكو.
هذه المعادلة، لم تمنع من دوران عجلة الاجتماعات في قديمها وما حصل في الجولتين السابقين. كرر وفد الحكومة أنه «ليس وفداً حكومياً بل إنه مدعوم من الحكومة». وفي بعض الأحيان سمى نفسه «الوفد الوطني» والطرف الآخر «الوفد التركي». كما قال الناطقون باسمه إن اللجنة «كيان مستقل» يجب عدم التدخل في عملها، وإن الاتفاقات التي أنجزها بيدرسن مع الحكومة والمعارضة حول «قواعد عمل اللجنة» في أكتوبر الماضي، «غير ملزمة» لوفد الحكومة. كما تجنب قبول تسجيل المشتركات خلال ثلاثة أيام من الحوار مع وفد «هيئة التفاوض» المعارضة في وثيقة مشتركة، مشدداً على ضرورة الاتفاق على «المحددات الوطنية». وعندما قال معارضون، برئاسة هادي البحرة، إن المحددات الوطنية أو المبادئ فوق الدستورية، أُنجزت في نقاطها الـ12 في بيان ختام مؤتمر الحوار الوطني في سوتشي بداية 2018، كان الرد ما مفاده أن «مخرجات سوتشي الروسية، غير ملزِمة للوفد المدعومة من الحكومة السورية».
عليه، يمكن القول إن الجلسات كانت أقرب إلى «نقاش ثقافي» حصل الكثير منه أو أكثر منه في دمشق وذكّر البعض بـ«المنتديات الثقافية» قبل سنوات. حال دون حصول عمل تراكمي سياسي بين وفود: الحكومة، والمعارضة، والمجتمع المدني. حال دون اتفاق الطرفين ووفد المجتمع المدني على تثبيت مقترح بيدرسن بعقد الجولة المقبلة في 5 أكتوبر. انتهى الاجتماع دون الاتفاق على جدول أعمال الجولة المقبلة.
أيضاً، كان هذا يحصل تحت أعين الوسطاء الأمميين الذين أسهموا في صوغ «القواعد الإجرائية». لكن العُقدة أن دمشق ترفض استقبال بيدرسن لأنها تقول إن اللجنة «كيان سيادي يجب عدم التدخل بعمله». لم يبقَ من خيار سوى طرق الوسيط الأممي باب موسكو وأنقرة، لضمان استمرار العمل. لكنّ «الضامنين» يقولون: العملية الدستورية هي ملكية سورية وبقيادة سورية.
رغم الدوران في هذه الدائرة المفرغة، فإن الجميع متمسك بـ«ورقة التوت» لأسباب استراتيجية أو تكتيكية أو شخصية: دمشق وافقت على مضض على المشاركة في عملية برعاية أممية في جنيف ولا تستطيع القول لموسكو إنه ليس هناك عملية سياسية. لا تمانع في ترك العملية على قيد الحياة إرضاءً لموسكو التي تضمن الأكسجين ممدوداً إلى جنيف حتى تأتي لحظة التفاهمات مع أميركا والحاجة إلى شرعية أممية من بوابة تنفيذ مطاط للقرار 2254. كما تشكل هذه العملية السياسية «ورقة توت» لأنقرة كي تحرم خصومها الأكراد من «الشرعنة الدولية» مع استمرار تعظيم مد نفوذها في الشمال السوري. ينطلق هذا بطريقة معينة على إيران.
أما المعارضة السورية، فهي متمسكة بهذه المنصة الوحيدة التي تعطيها وزناً مشابهاً لوزن الحكومة رغم الاختلاف الكبير في وقائع الأرض والدعم الخارجي. حلفاء المعارضة أيضاً، متمسكون بها لتبرير عدم القيام بأي بديل ومواجهة عناد روسيا. يحصل هذا بحضور أممي واكتفاء بقبول «لهجة مختلفة» من المتفاوضين وإنجازات شكلية، بدل البحث الجدي في مداخل أخرى للعملية السياسية وتنفيذ القرار 2254. من يتجرأ على نزع الورقة، سيتحمل مسؤولية البحث عن بديل!
المصدر: الشرق الأوسط