
ربما يرجع تاريخ أدب السجون إلى ما كتبه أفلاطون (348-347 ق.م) عن محاكمة وسجن الفيلسوف سقراط، وفي الأدب العربي يمكن اعتبار قصائد الشاعر الجاهلي عدي بن زيد العبادي التميمي، المتوفى سنة 590 ميلادية، تلك القصائد التي كتبها في سجنه، من بواكير ما يمكن تسميته “أدب السجون“.
إلا أنه في العصر الحديث، وفي حلّته الراهنة، يمكن الإشارة إلى البدايات كـ”مصطلحٍ وجنسٍ أدبيٍّ مستقل”، يركّز على دقة الرواية والتوثيق وشهادة الضحايا، وقد تبلور في الربع الأخير من القرن العشرين في سياق النضال ضد القمع والاستبداد السياسي في العالم.
في أدب السجون ـ الحديث هنا عن الشطر الأوسع من هذا الأدب، وهو ما كتبه المعتقل الناجي من تجربته ـ يَعمد الكاتب الناجي إلى نقل تجربة الألم والمعاناة من حيّزها الشخصي إلى تقديمها كقضيةٍ عامة يمكن البناء عليها في فضح جرائم النظام القمعي وتوظيفها في المسار القانوني. وإن كانت الآليات السائدة في الفضاء العالمي لم ترقَ بعد إلى فتح مسار العدالة، إلا بالبعد الرمزي الذي لا يُنصف مظلوماً ولا يضرب على يد ظالمٍ ولا يُنشئ رادعاً يحمي المستضعفين من تكرار المأساة.
لن يكون الكاتب الناجي في مَنأى عن الألم والمعاناة وهو يستحضر أدق تفاصيل الحوادث والوقائع التي تتزاحم في ذاكرته وتحتدم لتخرج كما ينفجر البركان من فوهته الضيقة فيحرق حوافه وسفوحه قبل أن تصل حممه إلى مستقرها.
هنا يأتي دور أدب السجون، ولا سيما ذلك الذي تحرّى التوثيق والدقّة في الرواية، في جعل الفضيحة وتبعات الجريمة تلاحق الجاني لعقودٍ طويلة، ريثما ينضج الفضاء القانوني العالمي ليُصار إلى محاسبتهم والقصاص منهم. وهذا مرهونٌ في بعض جوانبه بإصرار الناجين والمنافحين عن حقوق الضحايا على إبقاء الصوت مسموعاً وإبقاء الحكايات عالية الصدى. فالكاتب يوثّق الألم الجماعي ويخلق ضميراً جمعياً ناطقاً بآلام هؤلاء الضحايا. وإذا تضافرت الجهود وتعدّدت السرديات والشهادات، صار لدينا سجلّات مجتمعية تحكي تاريخاً صمت عنه كثيرون، تاريخاً يكتبه المستضعفون لا يشبه التاريخ الذي كتبه المنتصرون والمستبدون.
في تناولنا لأدب السجون كنوعٍ أدبيٍّ يضجّ بالألم والمعاناة ويستنهض لدى القارئ أقصى درجات التحفّز والتوتر، من الجميل أن نتذكر كم تخلق هذه الأعمال من جغرافيا عاطفية تتشكل فيها الأزمنة والأمكنة، بدءاً من غرفة التحقيق والزنزانة المعتمة وصولاً إلى ساحات الجلد والتعذيب وأعواد المشانق. وتتحول إلى فضاءاتٍ من السرد والتشكيل الجمالي الذي يسلّط الضوء على تجربةٍ إنسانيةٍ غايةٍ في الفرادة، فنسمع صوت الضحية المنتصرة وقد عادت من مَسلخها البشري لتجلد الجلّاد بسياط الحكايات التي لن تتوقف حتى تسلبه ما تبقى لديه من فتات الراحة المتوهّمة ومحاولات النسيان.
ومع كل هذا، لن يكون الكاتب الناجي في مَنأى عن الألم والمعاناة وهو يستحضر أدق تفاصيل الحوادث والوقائع التي تتزاحم في ذاكرته وتحتدم لتخرج كما ينفجر البركان من فوهته الضيقة فيحرق حوافه وسفوحه قبل أن تصل حممه إلى مستقرها. لحظة الكتابة، حين ينفرد الناجي بذاته وهو يدقق في أصغر التفاصيل، ويستحضر أصواتها وصورها وتفاصيلها النفسية وربما روائحها المخزونة في الذاكرة، والعبارات التي ترددت في الأرجاء أو التي دارت في خلده آنذاك، ليسكبها جميعاً عبر حروفه السوداء على بياض الصفحات الوادعة. يرتفع نبض قلبه إلى أقصاه، وترتعش أنامله، ويغشى الدمع عيناه، وربما سمع في دهشةٍ صوت نحيبه الذي يكتمه عن الآخرين. ليس هذا مشهداً تخيلياً، بل هو اعتراف العديدين ممن خاضوا هذه التجربة.
في السرد الشفهي تغلب نبرة السخرية على حديث الراوي، ربما ليؤكد لنفسه وللسامعين أنه أقوى وأنه يستهزئ بهذه الآلام، لكن خلال فعل الكتابة ينفرد الناجي بذكريات الآلام التي لم تنل حظها الوافي من أنَّات الصدر بعد.
ليس على من يكتب أدب السجون وهو ينقل تجربته وتجربة الآلاف ممن عاشوا تلك الظلمة أن يخفّف أو يلطف حكاياته كي يكون وقعها أقل إيلاماً للقارئ، ففي ذلك خيانةٌ للحقيقة أولاً، وانحرافٌ عن أهم مقاصد توثيق الوقائع التي اقتاتت على دماء ضحاياها. وليكن من نصيب القارئ بعضٌ من هذه الآلام؛ فالقصد منها تحويل الذاكرة الأليمة إلى ذاكرةٍ مقاومة، وخلق مزاجٍ ورأيٍ عامٍّ يرفض أن تُعاد تلك الجرائم والمجازر مرةً أخرى.
فمن مهام أدب السجون الالتزام بالواقعية التوثيقية، ومزج الإنساني بالسياسي، كي يتحول القصد من الفردي والشخصي إلى العام والجماعي.
وربما استطاع أدب السجون في كثيرٍ من المرات جمع المتناقضات في عرضه لجماليات المأساة وقسوتها. فعلى مسار الكلمات المنثالة على صفحات الكتاب، يعمل الكاتب على المواءمة الصعبة بين التوثيق والتشكيل الفني، فهو يَنوس بين مأساوية الوقائع التي تشكّل تراجيديا مفرطة في قسوتها وواقعيتها، وبين براعة السرد وترتيب الصور والمشاهد بشكلٍ فنيٍّ يشكّل في كثير من مشاهده لوحاتٍ سينمائية لا تحتاج للمزيد من التعديل حتى تكون مبهرة، تضفي على المأساة جماليات الأدب والفن مجتمعين.
يبرز المكان في هذا السياق كبؤرةٍ محوريةٍ يدور الزمن مكبلاً إلى أعمدتها؛ فالزنزانة هي الوحدة المركزية التي يحكي الناجي حكايته من فرجة قضبانها السوداء. بالطبع لا يمكننا إهمال أقبية التحقيق ومحطات الترحيل من فرعٍ إلى آخر، وما يكتنف تلك المحطات من تعذيبٍ وضربٍ وإهانة، لكن تبقى الزنزانة في جميع تلك السياقات هي الركن الأساس للحياة داخل المعتقلات. وفي الزمن الممتد تتوسع تلك الزنزانة لتتحول إلى “مهجع” قد يضم مئتي سجين، بين جدرانه تدور الحياة البطيئة السوداء بكل تفاصيلها وغناها وكثافتها.
أدب السجون يخلص إلى وضع مفهوم “الحرية” في مركز القضايا الإنسانية الملحّة، الحرية المفقودة التي يدور معظم هذا الأدب في فلك غيابها القسري.
طالما ذكّرتني لوحة الفنان الهولندي فان غوغ “تجوّال السجناء”، التي تُظهر عدداً من السجناء يبدو البؤس والشحوب بادياً في وجوههم الكالحة، طالما ذكّرتني بساحات تدمر؛ مع الفارق أن السجناء في ساحات تدمر كثيراً ما يخرجون للتعذيب عراةً سوى من شورتٍ قصيرٍ يستر مطاويهم، وهم في حالة جريٍ ولهاثٍ، تعلو أجسادهم آثار السياط والكابلات التي أسالت دماءهم. وتختلط في فضاء تلك الساحات أصواتُ الجلادين وهم يصيحون بهستيريا وجنون، وصرخاتُ المعذّبين الذين تهتكت جلودهم من فتك الكابلات النحاسية والسياط المطاطية.
مشهدُ الساحات والتعذيب الجماعي لم أقع على شبيهٍ له ولو بالحد الأدنى في جميع ما قرأت واطلعت عليه من أدب السجون على مدى أربعين سنة، وربما كانت هذه سمةً خاصةً بالمعتقلات السورية.
من منطلق التجربة الشخصية وتجارب المئات الذين عرفتهم أو سمعت قصصهم أو تشاركت وإياهم فيها، فإن نقل هذه التجربة عبر حكايتها وسردها بشتى أنواع الكتابة والفنون أو أدوات التواصل والنشر هو ضربٌ من ضروب الوفاء الأخلاقي لمن نجا ومن قضى.
هنا ينتصب فعل الكتابة في أدب السجون كرمزٍ للانتصار المعنوي والنفسي، وكسرٍ لإرادة الظلام التي طالما أصرت على إبقاء حكايات المعتقلين والضحايا في عتمات تلك السجون، وحتى في عتمات المقابر الجماعية التي تظهر للعيان كل يوم كاشفةً عن هول المجازر التي ارتُكبت، والتي تكفي لتكون ألف سببٍ لألف ثورةٍ لا تتوقف حتى تُسقِط نظام القمع والإجرام المنظّم.
أدب السجون يخلص إلى وضع مفهوم “الحرية” في مركز القضايا الإنسانية الملحّة، الحرية المفقودة التي يدور معظم هذا الأدب في فلك غيابها القسري.
ختاماً، ليست الكتابة عملاً توثيقياً وحسب، بل هي إلى جانب قيمتها التوثيقية أداةٌ من أدوات المقاومة والعدالة التي لن يستقرّ سلامٌ من دون تحقيقها.
المصدر: تلفزيون سوريا