نحو تغيير السياسة الألمانيّة في الشرق الأوسط

  أسعد قطّان

على لائحة الموقّعات والموقّعين أسماء يعرفها كُثُر: جوزيب بوريل، الناطق السابق باسم الاتّحاد الأوروبيّ في شؤون السياسة الخارجيّة؛ هيلين كلارك، رئيسة وزراء نيوزلاندا السابقة، وغيرهما. لكنّ معظمهم من الأكاديميّين الألمان أو العاملين في الجامعات الناطقة بالألمانيّة، أو ضمن مؤسّسات قائمة في كبريات المدن الألمانيّة: برلين، ميونيخ، هامبورغ، فرانكفورت. بعضهم متخصّص في العلوم السياسيّة وباحث في شؤون الشرق الأوسط، بعضهم مؤرّخ، بعضهم اختصاصيّ في الإسلاميّات وآداب اللغة العربيّة، بعضهم سفير سابق أو قاضٍ أو متضلّع من القانون الدوليّ. ويلفت أيضاً أنّ بعضهم من الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة وفرنسا والنمسا.. وإسرائيل. أمّا عدد التواقيع، فيتخطّى المئتين، علماً بأنّ نحو 48 شخصاً قرّروا تبنّي الوثيقة من دون توقيعها جهاراً.

تحمل الوثيقة عنوان:“ما وراء مصلحة الدولة” (Beyond Staatsraison)، وقد أُطلقت يوم الثاني من تشرين الأوّل/أكتوبر 2025. هي تستنهض دولة ألمانيا الاتّحاديّة لتبنّي سياسة أوروبيّة من نوع آخر في الشرق الأوسط على قاعدة التوازن بين المسؤوليّة التاريخيّة والمصالح الاستراتيجيّة والقانون الدوليّ. ويكتب واضعو الوثيقة في مستهلّ نصّهم: “إنّ التدمير الشامل المستمرّ لغزّة وتجويع سكّانها على يد دولة إسرائيل يستحثّان المجتمع الدوليّ على العمل العاجل. إنّ هذه الكارثة، التي صنعها الإنسان، بمنزلة إهانة لحسّنا الإنسانيّ المشترك، ولكلّ ما تطمح جمهورية ألمانيا الاتّحاديّة والاتّحاد الأوروبيّ إلى الدفاع عنه”.

تنطلق الوثيقة من كون مبدأ «مصلحة الدولة»، الذي ما زال يسوس العلاقة بين ألمانيا ودولة إسرائيل إلى اليوم، مبدأً سابقاً للديمقراطيّة. وقد أفضى إلى تغليب دعم حكومة إسرائيل شبه اللامشروط على التزامات ألمانيا القانونيّة والأخلاقيّة، وما تستتبعه هذه من إعلاء المصالح الوطنيّة والأوروبيّة، والذود عن حقوق الفلسطينيّين الطبيعيّة، والاهتمام بمصير الرهائن الإسرائيليّين، والالتصاق بجهود السلام المبذولة في المنطقة. ومن ثمّ، تدعو الوثيقة إلى تغيير جذريّ في النموذج السياسيّ المتّبع في ألمانيا حيال قضايا الشرق الأوسط، وذلك انسجاماً مع القانون الدوليّ، والدستور الألمانيّ، والمسؤوليّة التاريخيّة في المنافحة عن القيم الإنسانيّة، والتضامن مع ضحايا الكارثة الحاصلة في هذه المنطقة من العالم.

تشتمل الوثيقة على عشرة أفكار رئيسيّة يمكن تلخيصها كالآتي: إنفاذ القانون الدوليّ وقانون الاتّحاد الأوروبيّ؛ إيلاء الصدارة لجهود السلام القائمة على المساواة في الحقوق وتقرير المصير؛ دعم انخراط المجتمع المدنيّ في تحقيق السلام والمصالحة؛ مواجهة المتطرّفين والمفسِدين بفاعليّة وصرامة؛ حماية الأمم المتّحدة وتعزيز تعدّديّة الأطراف (multilateralism) في العمل السياسيّ؛ جعل الاتّحاد الأوروبيّ ذا شأن؛ تصحيح السرديّات المشوّهة وتعزيز الخطاب القائم على الحقائق الموضوعيّة؛ تحمّل المسؤوليّة التاريخيّة؛ تبنّي مقاربة شاملة لمكافحة الكراهية الناجمة عن النزاعات؛ توطيد ثقافة القيم الإنسانيّة المشتركة.

لئن تصعب استعادة كلّ الأفكار التي تنطوي عليها هذه الوثيقة، إلّا أنّه من الضروريّ بمكان التشديد على كونها تدشّن مقاربةً تفكيكيّةً طال انتظارها لكيفيّة تعامل الحكومات الألمانيّة المتعاقبة مع سلوك أصحاب الحلّ والربط في إسرائيل وديناميّات التغيير في المجتمع الألمانيّ ذاته. فهي تحضّ ألمانيا، مثلاً، على الاعتراف الفوريّ بدولة فلسطين، على غرار دول أخرى في الاتّحاد الأوروبيّ مثل فرنسا وإسبانيا، وتبنّي المبادرة العربيّة القائمة على حلّ الدولتين، وتقديم العون إلى الفلسطينيّين على توطيد دعائم دولتهم. كذلك تدعو الوثيقة إلى مراجعة الاتّفاقات الاقتصاديّة مع إسرائيل، في ضوء ارتكابها جرائم ضدّ الإنسانيّة وجرائم حرب، فضلاً عن الشبهة الواقعة عليها بارتكاب إبادة جماعيّة بالاستناد إلى المعطيات المتوافرة لدى محكمة العدل الدوليّة، ومنع تصدير الأسلحة إلى الدولة العبريّة واستيراد البضائع الآتية من المستوطنات. علاوةً على ذلك، تنتقد الوثيقة ما يتعرّض له داعمو حملة مقاطعة إسرائيل (BDS) من تمييز غير مبرّر مشيرةً إلى أنّ موقفهم، بصرف النظر عن مدى صوابه، منسجم مع حرّيّة التعبير التي يكفلها الدستور الألمانيّ ما دام هذا الموقف لا يرقى إلى مصافّ الإهانة، التي يعاقب عليها القانون. وهي تشدّد، أخيراً، على أنّ محاربة معاداة الساميّة، التي التزمت بها ألمانيا في إثر المحرقة النازيّة، لا تتّصل بالدول أو بالحكومات، بل بالشعوب، وأنّ الشراكة بين ألمانيا وإسرائيل لا يمكنها أن تكون على حساب حقوق الإنسان. وتضيف الوثيقة أنّ دعم ألمانيا دولةَ إسرائيل بعد المحرقة كانت له تداعيات سلبيّة على شعوب المنطقة بعامّة، بما فيها الجماعات اليهوديّة الشرقيّة، والشعب الفلسطينيّ بخاصّة، ما يلقي على عاتق ألمانيا مسؤوليّةً تاريخيّةً مزدوجة: أوّلاً، العمل الحثيث على أن يتاح للشعب الفلسطينيّ تقرير مصيره بحرّيّة على قاعدة السلام والعدل والمصالحة؛ وثانياً الاعتذار عن مشاركة ألمانيا في خلق الظروف التي وضعت «اليهود والعرب» في مواجهة بعضهم بعضاً، والمساهمة المعنويّة والمادّيّة في التعويض عمّا لحق بالفلسطينيّين بفعل الاحتلال الإسرائيليّ لبلادهم.

المصدر: المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى