اللاتواصل في زمن التواصل

أحمد المرزوقي

                   

في زماننا الباكر، كان عموم الناس في قبيلتنا النائية يتواصلون بحناجرهم القوية، إذ كان يكفي أحدهم، عند الحاجة الملحّة، أن يصعد فوق هضبة قرب داره ويضع يديه حول فمه على شكل بوق، ثمّ ينادي على صاحبه البعيد عن داره كيلومترين إلى ثلاثة بصوت ملعلع، تردّد الجبال والشعاب صداه. ولم يكن ينتظر سوى نداءين أو ثلاثة، إذا كان المنادى عليه حاضراً في بيته، حتى يردّ عليه في الحين.

وبعد أن بدأت نخبة من أهل البلد تسافر إلى مدينة فاس لبيعٍ أو شراءٍ، وشرع الطلبة الحافظون القرآن الكريم يقصدونها للدراسة في جامعة القرويّين، وصار قسط من الشباب ينخرط في أربعينيّات القرن الماضي، في الجيش الفرنسي أو في الإسباني، برزت الرسالة نوعاً جديداً قديماً من التواصل. وكانت لهذه الرسالة طقوس خاصّة عند وصولها إلى صاحبها. كانت تسمّى “البْرِيا” باللهجة العامية، وكان المقدّم (أصغر رجل سلطة في البلد) هو من يوصلها إلى صاحبها بعد فتحها عند القائد وقراءة محتواها. ولم يكن ذلك يغيظ المُرسَل إليه، بل على العكس، كان يتيه فخراً واعتزازاً لإحساسه بين ناسه بالتميّز. فإنّ من يعيش في حيّز ترابي محدّد من دون أن يكتب له السفر إلى أبعد ما يحدّ بصره من جبال محيطة به، ينتهي به الاعتقاد إلى أن الدنيا ليست سوى تلك الرقعة الأرضية التي درج فوقها راعياً أو فلاحاً، وأنّ ما يسمع عنه من وجود مدن كبيرة نائية إنما هي أماكن عجيبة لا أمل له في زيارتها، كتلك المدن السحرية التي يسمع من خلال خرافات الجدّات أن الجنّ هو من شيّد قصورها الذهبية تحت الأرض.

ولهذا كان المقدّم إذا جاء إلى أحدهم برسالة، فمعنى ذلك أنه أصبح من الأعيان، إذ لا يمكن أن يتّصل به من وراء البحار إلا ابن بارّ غابت أخباره حين انخرط في جيش “النصارى”، أو صهر محتمل خطب إحدى بناته ثمّ توارى عن الأنظار، ليخبره بعد سنتَين أو ثلاث بأنه ما زال حيّاً يرزق. وهذا تشريف يرفعه درجات بين أقرانه البسطاء.

أصبح كل شيء يتوارى تدريجياً، حتى صار البشر أشبه بقطيع من الأنعام يدسّ رأسَه في الحشيش وهو سارح في المراعي لا يلوي على شيء

كان فقيه القرية من يقرأ الرسالة بوقار مصطنع، حتى يعطي للحظة أهميتها، ويستعرض علمه الغزير. وعادة ما كانت تبدأ بالحمدلة، وبعبارةٍ لا محيد عنها أبداً: “أنا بخير وعلى خير ولا ينقصنا سوى النظر في وجهكم العزيز”، ثمّ يشرع بالسلام على أسماء أكثر سكّان القرية أهميةً وأكبرهم سنّاً، وكلّما سمع أحد اسمه، جمع كفّيه ومسح بهما محيّاه، ودعا للغائب بالصلاح والفلاح والعودة الميمونة.

وبعد الرسالة جاء الهاتف الثابت، ولم يكن يمتلكه في القرية كلّها إلا وجيه واحد، وكان رقمه “1”، ثمّ أصبح مع المدّة “11” ثمّ “111”… فكان أحدهم إذا أراد أن يتّصل بأحد أقاربه، قدّم عنده وطلب منه مكالمة، فكان هذا يتّصل بالوكالة البريدية التي كانت تتصل بدورها بوكالة أخرى، وكان الأمر يتطلّب وقتاً طويلاً من الصبر والانتظار. أمّا إذا ذهب إلى الوكالة نفسها، فقد كان ملزماً بالانتظار أكثر، حتى يُؤذن له بدخول أحد المستودعات.

وفي سنين معدودة، قفزت البشرية قفزةً صاروخية، حصل فيها من التقدّم ما لم يحصل في قرون طويلة، ذلك أن التكنولوجيا سارت بسرعة خاطفة جعلت كل سنةٍ جديدة لا تحلّ إلا وتصحب معها سيلاً من الاختراعات والعجائب. فوصلنا إلى عهد الهواتف النقّالة، فتقلّصت المسافات بين الأمصار البعيدة، فصار كل شخصٍ قادراً بنقرة واحدة على ربط الاتصال بأقصى نقطة في هذا الكوكب الدائر.

من ضجيج النداء على الجبال إلى همس الرسائل الفورية؛ ما الذي تغيّر فينا؟

وفي وقتٍ لم يستوعب فيه سكّان الأرض بعد حلاوة هذا الاختراع المدهش، زحف جيل الهواتف الذكية ليقلب الدنيا رأساً على عقب، ويختزل العالم كلّه صوتاً وصورةً وأخباراً وثقافةً ومعرفةً وتجسّساً في آلةٍ بحجم كفّ اليد الواحدة. غير أنه بقدر ما قرّب المسافات بين البلدان والقارّات، باعد بين أفراد الأسرة الواحدة حين فكّك الروابط الاجتماعية التي كانت تشدّ الناس بعضهم إلى بعض. فأين السمر الهادئ مع الأحباب في الليالي المقمرة؟ وأين الدفء الإنساني مع حكايات الجدّات في الليالي الماطرة؟ وأين حرارة الشوق لاستقبال حبيب يعود بعد طول غياب؟ وأين الحديث الممتع مع أصدقاء يَسعد القلب بقربهم وتقرّ العين ببريق أعينهم وبسمات محيّاهم؟ وأين لذّة لم الشمل مع أفراد الأسرة في المناسبات والأعياد؟

لقد أصبح كل شيء يتوارى تدريجياً، حتى صار البشر أشبه بقطيع من الأنعام يدسّ رأسَه في الحشيش وهو سارح في المراعي لا يلوي على شيء. فأينما ولّيتَ وجهك اليوم، فلن ترى إلا مخلوقات آدمية مشدودة إلى هواتفها كما يشدّ المغناطيس إليه قطعةً شاردةً من الحديد. أيادٍ مجنونة تمرّر سبّابتها بخفّة على الشاشات الصغيرة صعوداً وهبوطاً، ويَمنة ويَسرة، ضاحكةً تارةً ومتنهّدةً أخرى، وهي إمّا تطالع سيل الأخبار الجارف في قنوات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي، وإمّا تتابع بإدمان مباريات كرة القدم، أو تبحث عن أخبار النجوم والمشاهير، وقليل قليل من ينتفع بهذه “النعمة/النقمة” ويستعملها لطلب العلم والمعرفة.

والعجيب ممّا عشته (وما زلت) أن بنتي الوحيدة مولعة بالتمشّي في رقعة صغيرة من البيت. فعندما نناديها لا تجيبنا لأنها ألفتْ أن تضع سمّاعة على أذنيها للاستماع إلى الموسيقى، فنكون مضطرين إلى مهاتفتها وهي تمرّ من قربنا جيئةً وذهاباً، لندعوها إلى الغداء مثلاً. ومن المستملحات التي يتداولها المغاربة بينهم، وانتشرت في مناطق واسعة من الوطن العربي، دعابة أن ربّ أسرة أسرّ لأصدقائه المقرّبين في العمل بأن الـ”واي فاي” تعطّل عنده ليلةً واحدةً، فكانت تلك بالنسبة إليه فرصةً سانحةً للتعرّف فيها إلى أهل بيته… فوجد أنهم أناسٌ طيبون.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى