”   النهضة” بريئة من دم شكري بلعيد

صلاح الدين الجورشي

                                      

أسدل الستار على محاكمة المتورّطين في قضية اغتيال المرحوم شكري بلعيد، فطويت صفحة مؤلمة من صفحات الثورة التونسية المغدورة. لكن ما لفت الانتباه في الحكم في هذه القضية غياب الإشارة إلى حركة النهضة التي وجّهت لها أطراف عديدة، وخصوصاً اليسارية منها، تهمة التخطيط والتوجيه والتمويل، وحتى تنفيذ عملية الاغتيال. وكانت تلك التهمة من بين الأسباب التي جرى الاستناد إليها لتبرير الحملة السياسية التي تعرّضت لها الحركة، وقائدها الذي رفع ضده الشعار الخطير “يا غنّوشي يا سفّاح يا قتّال الأرواح”.

كان من البديهي أن يفرح أنصار “النهضة” بهذا الحكم القضائي الذي صدر في عهد الرئيس قيس سعيّد، والذي لم يتردّد لحظة في وضع الغنوشي وكبار كوادر الحركة في السجن، فلو وجدت المحكمة أي دليلٍ من شأنه إثبات تورّط الحركة في هذا الاغتيال، لجرى استعماله بحماسٍ شديد. لهذا أكّدت الحركة في بيانها على مسألتين مهمتين. تعلقت الأولى بـ”خلوّ أيّ إدانة لأيّ من منتسبيها”، وهو ما يؤكد أن “القضية تم توظيفها سياسيّاً من قبل القوى الاستئصالية”، على حد وصفها. ومن جهة أخرى، اعتبرت الحكم “يفند الاتهامات الموجهة إليها بالهيمنة على القضاء”.

مع ذلك، ستبقى الحركة تحت الضغطين، القضائي والسياسي، بسبب القضية المرفوعة ضدها التي تتعلق بملف “الجهاز السرّي”. وهو “جهاز” تتحدّث عنه السلطة وأنصارها، وهناك من اعتبره المكلف بالتخطيط المؤدّي إلى عملية الاغتيال. ويضمّ هذا الجهاز 35 متهماً سيمثلون أمام المحكمة، من بينهم راشد الغنوشي وعلي لعريض الذي كان وزيراً للداخلية. وسيُشرَع في النظر في هذا الملفّ يوم 21 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. وفي انتظار ما ستسفر عنه هذه القضية، فإنها لن تقلل من أهمية الحكم الذي صدر، والذي لم يشمل أي عضو من أعضاء الحركة، ولم توجه لها تهمة المشاركة في أي مرحلة من مراحل الاغتيال، سواء عبر التحريض أو التخطيط أو التمويل أو تقديم شكلٍ من أشكال المساعدة. وهو أمرٌ سيعتمده لسان الدفاع خلال المرحلة المقبلة. كما سيتساءلون بشأن أسباب الفصل بين الملفين، ويثيرون الشكوك حول الأسباب والدوافع السياسية التي دفعت المحكمة نحو تبرئة حركة النهضة من جهة، لتعود إلى إدانتها في القضية نفسها.

لنفترض أن حركة النهضة تملك جهازا سرّياً للمراقبة وتحليل المعطيات المتعلقة بمؤسّسات الدولة والمعارضة التي هي في قطيعة معها، هل يكفي ذلك لإثبات تهمة القتل أو المشاركة في الاغتيال؟ فالانتقال من النية إلى التنفيذ يحتاج إلى دليل. كما أنه في قضية الحال يجب التأكّد من وجود علاقة تنسيق وتعاون بين حركة النهضة وتنظيم أنصار الشريعة الذي أعلن مسؤوليته عن اغتيالي بلعيد والبراهمي، وهو ما أقرّ به المتهمون. وتطابق ذلك مع التحرّيات الأمنية والقضائية لمؤسسات الدولة خارج تونس، والتي تابعت العديد من المسائل الفنية والاستخباراتية، لمعرفة إن كانت هناك علاقة ما بين التنظيمين.

تقتضي الموضوعية حالياً الفصل بين مسألتين، لكل منهما سياقه الخاص. تتعلق الأولى بالصراع التاريخي بين حركة النهضة وعموم اليسار التونسي. وهو صراعٌ له جذوره الأيديولوجية والسياسية والأمنية، لكنه لم يصل إلى حد التصفية الجسدية. فالطرفان ارتكبا أخطاء معقدة، ولم يُحسنا إدارة العلاقة بينهما منذ المرحلة الطلابية وصولاً إلى اللحظة الراهنة، لكن أياً منهما لم يلجأ إلى القتل على الطريقة المافيوزية.

تخصّ المسألة الثانية الصراع السياسي الدائر حالياً بين المعارضة المنقسمة على نفسها والسلطة الحالية. ورغم أن هذا الصراع اتسع وتشعب وتعدّدت أشكاله، وبعثر ملفات عديدة، لكنه نجح في تجسير العلاقة بين العديد من خصوم الأمس.

يفترض بعد صدور هذا الحكم أن يقف الجميع أمام المرآة، ويعيدوا ترتيب القضايا والأولويات، وتحديد الخلافات القائمة بينهم. ومن كان همّه وضع خصومه في السجون والمنافي من دون دليل، فقد حكم على نفسه بالعزلة القاتلة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى