
تحوم الرؤية السياسية التحليلية طويلاً وكثيراً حول مجمل الزيارة المهمة التي قام بها الرئيس أحمد الشرع إلى موسكو، ومن ثم محاولة كسر الجليد الذي تراكم تباعاً من جراء ما فعلته روسيا في الجغرافيا السورية، منذ أن قررت الولوج عميقاً في جوف الملف السوري، توخياً وعَملاً جدياً نحو إنفاذ مصالحها الجيوسياسية أولاً، ومن ثم إعادة إحياء نظام الاستبداد والفاشيست الأسدي بعد أن كاد ينهار هذا النظام الدكتاتوري أواخر عام 2013.
لقد دخلت القوات الروسية في 30 أيلول/سبتمبر إلى سوريا، مستهدفة كل ظواهر وتجليات العسكرة السورية المناهضة لنظام الأسد، ثم مارست في الساحة والجغرافيا السورية كل أنواع القهر والقمع والقتل ضد الشعب السوري، الناهض والمنتفض في مواجهة الطغيان الأسدي الذي عاث فساداً ونهباً وسلباً واستلاباً في الواقع السوري منذ ما يزيد على أربعةٍ وخمسين عاماً خلت.
إذًا يمكن القول إن الذاكرة السورية ما زالت حبلى وممتلئة بكثير من الآلام التي خلّفها الوجود الروسي الاحتلالي في الساحة السورية، ولا أعتقد أن السوريين عموماً، حكومةً حاليةً وشعباً، يمكن أن ينسوا أو يتناسوا ما حصل لهم من خلال ما فعلته آلة القتل الروسية خلال عشر سنواتٍ أو يزيد، من المقتلة الروسية ـ الأسدية ـ الإيرانية المتحالفة ضد إرادات الشعب السوري، ضمن سياسة الإكراهات الكبرى التي مورست حينها ضد السوريين عموماً، وخاصة المناهضين لسياسات إيران ونظام الاستبداد الأسدي الطغياني، الذي راهن على استسلام السوريين وتسليم زمام الأمور إلى نظام الاستبداد العدواني ضد شعبه.
يمكن القول إن الذاكرة السورية ما زالت حبلى وممتلئة بكثير من الآلام التي خلّفها الوجود الروسي الاحتلالي في الساحة السورية، ولا أعتقد أن السوريين عموماً، حكومةً حاليةً وشعباً، يمكن أن ينسوا أو يتناسوا ما حصل.
لكن اليوم نجد أن الدولة السورية الوليدة والجديدة، التي خرجت من رحم ثورة الشعب السوري، ثورة الحرية والكرامة، وصلت إلى موسكو، والتقت بالرئيس الروسي بوتين وكل العسكر والسياسيين الروس الذين أوغلوا بالدم السوري. هذه المشهدية أصبحت واقعاً رأيناه، وكل هذا صحيح. أمّا الصحيح الآخر، والذي لا يمكن القفز فوقه، فهو أنه لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة في السياسة كما يُقال دائماً، وأن القواعد العسكرية الروسية ما انفكت موجودة وباقية أمام الأعين، وهنا لابد من التوقف عندها ومحاولة إعادة صياغة تلك الاتفاقات الأسدية التي استجلبت الروس إلى سوريا، لتكون اليوم السيادة الوطنية السورية أولاً ولا شيء يعلوها أو يتقدم عليها.
كذلك، فإن هناك على الأراضي الروسية، وضمن العمارة الروسية، يعيش الرئيس المجرم بشار الأسد، الفارّ إلى موسكو والناهب لخيرات وأموال السوريين، ولابد من محاولةٍ ما للمقايضة معه في عملية تسليم رأسه، إمّا للجنائية الدولية أو للقضاء السوري المدني، لينال جزاءه العادل، ولا شيء فوق العدالة. ولعل أولى أولويات العدالة الانتقالية في سوريا هي عملية الولوج في السلم الأهلي، ومن ثم تسليم الجناة الذين ارتكبوا الفظائع بحق الشعب السوري، وأولهم المجرم الأكبر بشار الأسد الذي ما زال يعيش في موسكو تحت الرعاية الروسية، مجرماً طليقاً هارباً من العدالة.
صحيح أن الروس اليوم، وضمن ظروف السياسة الإقليمية والدولية، من الصعب أن يسلموا بشار الأسد حالياً للحكومة السورية، لكنه ليس مستحيلاً أبداً في قادم الأيام. وقد عُرف عن الروس براغماتيتهم في ذلك، وأنهم غير متمسكين إلا بمصالحهم، وهذا ما قالوه كثيراً للمعارضة السورية التي كانت تزورهم قبل التحرير، حيث يُعرف عن الروس أنه إذا اقتضت المصلحة الروسية تسليم رأس بشار الأسد أو سواه، فيمكن ذلك بكل تأكيد. وقد لا يكون هذا الأمر الآن، لكن في قادم الأيام قد يكون ممكناً ما كان غير ممكن في لحظةٍ زمنيةٍ أخرى.
كما أن ملفاتٍ عديدة وكثيرة ما برحت موجودة ومتراكمة، حيث تم تشكيل لجانٍ كثيرة لمتابعتها بين روسيا وسوريا، ولعل منها احتمالية ممارسة الضغط الروسي على تل أبيب كي تكفّ عن تعدياتها المستمرة على الأراضي السورية، وتتوقف عن الاستمرار باللعب بما تسميه إسرائيل “ورقة الأقليات”.
علاوة على ذلك، تأتي عملية استرداد الأموال السورية المنهوبة، التي حملها المجرم الفار بشار الأسد عبر الطائرات الروسية المتتابعة والمتجهة إلى موسكو نحو البنوك الروسية، كما حمل معه الكثير من الجناة الآخرين من رجالاته المجرمين الذين أوغلوا في الدم السوري واقتتلوا ونهبوا الكثير في سوريا أيام حكمه وحكم أبيه حافظ الأسد.
لقد كانت الزيارة واللقاء بين الشرع وبوتين ضروريين بكل تأكيد، وسوف يحملان الكثير من المصالح المتبادلة.
كل ذلك وسواه من إمكانية توريد قطع الغيار للسلاح الروسي المتوفر في سوريا، وتزويد السوريين بأسلحة حديثة، وكذلك إسقاط الديون أو شطبها، التي سبق واستدانتها قوات وأدوات وأنظمة بشار الأسد لقتل شعبه بها، وأيضاً أهمية وجود حراكٍ جديٍّ للتجارة البينية بين الدولتين في مجالات الطاقة والغذاء وسوى ذلك كثير، مع إمكانية أن تكون روسيا إحدى الدول التي ستشارك في استثماراتٍ كبرى لإعادة الإعمار في سوريا، وهو حلمٌ روسي قد يتحقق فيما لو تمكن المفاوض السوري في اللجان المشكلة من مقايضة ذلك بمصالح روسيةٍ كثيرة مطروحةٍ على الطاولة، ومنسوجةٍ مع جملة المصالح السورية أيضاً.
لقد كانت الزيارة واللقاء بين الشرع وبوتين ضروريين بكل تأكيد، وسوف يحملان الكثير من المصالح المتبادلة. وعادةً ما تكون المصالح بين الدول هي الأولى والأهم، حيث يتم تناسي العواطف والماضي القريب والبعيد بكل ما فيه، لصالح بناء المستقبل وبناء الدولة السورية اليوم ومؤسساتها الضرورية والأكثر أهمية من أجل المصلحة الفضلى للوطن والشعب.
المصدر: تلفزيون سوريا