
من المشكلات المركزية للدولة العربية ما بعد الاستقلال ضعف الثقافة المؤسسية، التى تدور حول استقلالية المؤسسة وهياكلها، وقواعد عملها، وآلياتها، وإجراءاتها، وأنماط السلوك المؤسسى التى تكرسها، وتضبط سلوك العاملين داخلها، وأيضا سلوك الأفراد من خارجها، وذلك وفق القواعد المؤسسية والقانونية والإجرائية دونما تمييز بين من يتعاملون معها على أساس الدين أو المذهب أو الانتماءات القبلية والعشائرية والعائلية والمناطقية ، والأهم عدم التمييز على أساس المكانة الاجتماعية، أو الموقع السلطوى. القيم المؤسسية تكرس القواعد الدستورية والقانونية فى أنماط سلوكها تجاه المواطنين، وإزاء العاملين داخل المؤسسة، وفى آليات العمل، والترقى، والمساءلة، حالة انتهاك القواعد المنظمة للعمل.
وضعية غالب المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. الخ العربية ، تتسم بالضعف البنائى، وتجاوز بعض قياداتها القواعد المنظمة لها، والتمييز بين العاملين داخلها، ومن يتعاملون معها من المواطنين، وفق الانتماءات إلي جماعاتها التكوينية، وأيضا هيمنة قانون المكانة الاجتماعية والسلطة والثروة فى بعض هذه المجتمعات العربية . أزمة الثقافة المؤسسية. لا تقتصر على المؤسسات الرسمية أيا كان مجال نشاطها، ووظائفها، وإنما تمتد إلى بعض الهياكل المؤسسية اللا رسمية، والطوعية بما فيها منظمات المجتمعات الأهلية فى هذه البلدان بما فيها، بعض المنظمات الحقوقية العاملة فى مجالات حقوق المرأة، والأقليات الدينية، والعرقية واللغوية والمذهبية أو الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ، وحقوق الإنسان بشكل عام. غالبا بعض هذه المنظمات تعتمد على مبادرات فردية، أو جماعية من بعض النشطاء فى هذه المجالات، والاعتماد على دعم وتمويل المنظمات الدولية الأوروبية والولايات المتحدة…الخ!
الدعم الدولى، والتمويل الخارجي، غالبا ما يعتمد على المبادرة الفردية ، وخبرات بعض القائمين على هذه المنظمات ومن ثم تتأثر مساراتها بدور وشخصية مؤسسى هذه المنظمات، وغالبا ما تلعب هذه الشخصيات دورًا مميزًا فى أنشطة هذه المنظمات الطوعية، ومن ثم لا تستطيع بعضها مراكمة خبرات مؤسسية، ومن ثم عندما يغادر بعض هذه الشخصيات حياة المنظمة غالبا، ما يتدهور بعض من أداءها المؤسسى ، او يتوقف عملها إذا تناقص او توقف تمويلها الخارجي ! وعدم الاعتماد علي التمويل والدعم الداخلي .
الجمعيات الأهلية ذات الأنشطة الرعائية أو الثقافية أو الفنية غالبا ما تتأثر بقياداتها، وتركيبة بعض العاملين داخلها، خاصة أن بعض قادتها غالبا ينتمون إلى بعض مكونات التركيبة المجتمعية الانقسامية، ومن ثم يتشكل من خلالها بعض هذه المؤسسات الطوعية، ومن ثم يميل مؤسسوها إلى بعض من التحيز إلى أصولهم القبلية والعشائرية والدينية والمذهبية والعرقية واللغوية والقومية.
أزمات الثقافة المؤسسية مرجعها نتاج الاختلالات الهيكلية لدولة ما بعد الاستقلال، التى ورثت بعض من هياكلها من موروث إدارة المرحلة الاستعمارية الفرنسية المباشرة، أو البريطانية غير المباشرة، ومعها بعض الموظفين العموميين الذين عملوا فى هذه الأجهزة ما قبل الاستقلال، وهؤلاء مع بعض القانونيين وبيروقراطية ما بعد الاستقلال ساهموا فى بناء المؤسسات العامة التى اتسمت باختلالات عميقة وبنيوية لأنها كانت جزءا من ظاهرة شخصنة السلطة السياسية حول الحاكم والقائد الفرد، أيا كانت آليات وصوله للسلطة. من هنا كانت الثقافة السياسية التعبوية، وتوظيفات الدين فى السياسة داعمة لدمج السلطات حول القائد الأوحد –رئيسا أو ملكا أو أميرا أو شيخًا-، ومن ثم كانت ولاتزال المؤسسات السياسية، رهينة توجيهات الحاكم ، ومواقع القوة حوله.
وتمددت شخصنة السلطة من رئيس الدولة إلى بعض مواقع القوة، وإلى قيادات المؤسسات العامة، والبيروقراطية والأحزاب السياسية الرسمية –فى التنظيم السياسى الواحد، أو جبهات سياسية شكلية وهامشية او التعددية السياسية المقيدة والشكلية -، ومن ثم أدى ذلك إلى بعض من هشاشة المؤسسات، وتآكل القيم والقواعد المؤسسية السياسية والبيروقراطية، وذلك لعديد الأسباب التي يمكن تحديد بعضها فيما يلى:
1- سياسة المحسوبية والزبائنية السياسية والموالاة على ثم مواقع القوة، وتحولها إلى قاعدة من قواعد إدارة العمل داخل المؤسسات، ومع الجمهور، من ثم أصبحت جزءا من النظام القيادي لمؤسسات الدولة ومن ثم إسناد غالب المواقع القيادية وفق سياسة الموالاة والزبائنية السياسية، والقرب من مراكز القوة السياسية والبيروقراطية.
فى المجتمع الانقسامية العربية، يتم الاعتماد في بعضها على معيارية الانتماءات الأولية – القبائلية والعشائرية والدينية والمذهبية والمناطقية، والعائلية-، فى إطار خلفيات الانتماءات للمكون الاجتماعى للحاكم ومواقع القوة حوله ويمتد ذلك إلى بعض التشكيلات الحكومية.
2- تضخم بعض المؤسسات الحكومية، وضعف المهارات، وعدم تأهيل، وإعادة تكوين العمالة والقيادات داخل المؤسسات مع التطورات الإدارية، والحوكمة والرقمنة، والذكاء الاصطناعي التوليدي ، ومن ثم بطء العمل والآداء، والكسل البيروقراطى.
3- تمدد ظواهر الفساد الإدارى، وشيوع جرائم الرشوة ، واختلاس المال العام..الخ، على نحو أدى إلى هيمنة ثقافة الرشوة فى بعض أجهزة دولة ما بعد الاستقلال، وأيضا بين المواطنين، وباتت بديلا عن القواعد المؤسسسية والقانونية بين الموظفين والعمال فى الأجهزة البيروقراطية.
4- أدت ظواهر التضخم البيروقراطى إلي تنازع الأجهزة فيما بين بعضها بعضا ومن ثم إلى عدم رسوخ القواعد المؤسسية فى العلاقات بين بعضها بعضا، وداخل هذه الأجهزة.
5- غياب التكوين المهني على المؤسسية فى الثقافة الإدارية، ومعاييرها، وآلياتها، وأخلاقيتها إلى هيمنة معايير القرابة والمناطقية فى التعينيات، والترقيات داخل المؤسسات البيروقراطية.
6- غياب القواعد والمعايير المؤسسية والسياسية فى التجنيد لعضوية الأحزاب السياسية، وفى المرشحين الذين تقدمهم للانتخابات العامة أو المحلية والمناطقية على معايير الولاء، والمكانة القبلية أو العائلية أو المذهبية، أو الثروة، والمكانة الاجتماعية، وهى انتخابات شكلية فى النظم التسلطية والاستبدادية، يتم تحديد تشكيلها مسبقا من قبل بعض أجهزة الدولة في غالب الدول العربية .
7- بعض الثقافة المؤسسية فى إطار هيراركية البناء القيادي سادت فى الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وداخل بعض المؤسسات العسكرية ذات التقاليد التاريخية، وذلك من أجل استمرارية أدوار أجهزة الدولة العميقة وأداء وظائفها المنوطة بها، بوصفها هى عماد ومركز النظام السياسى، إلا أن بعضها تعرض للانقلابات الداخلية، وتجاه رئاسة الدولة، ومثالها السودان منذ الاستقلال، واليمن الجمهورى بعد سقوط نظام الإمامة، والعراق منذ عبدالكريم قاسم، وما بعد، وسوريا ما قبل وما بعد حافظ الأسد. بعض أجهزة الدولة العميقة تعتمد على معايير مستمدة من تركيبة النظام السياسى، ومواقع القوة حوله، وولاءاتها وانتماءاتها الاجتماعية.
8- تواجه بعض دول العسر الاقتصادي العربية مشكلة تطوير ورقمنة مؤسسات الدولة البيروقراطية –باستثناء الأمنية والاستخباراتية- نظرًا لأن ذلك يتطلب استثمارًا ماليا ضخمًا، وأيضا بالنظر إلى الأجيال كبيرة السن التى تم توظيفها فى ظل السياسات الاجتماعية قبل السياسات النيوليبرالية التى كانت السياسات السابقة تأخذ بمبدأ توفير بعض الوظائف لخريجي الجامعات والمعاهد العليا، والمتوسطة، اما الاجيال الشابة خاصة جيل (z)، بات غالبيته خارج مؤسسات الدولة، أو لا يجد عملاً إلا فى القطاع الخاص او إلي البطالة.
من ناحية أخرى بعض هذه الدول قلصت سياسة التوظيف فى مؤسسات الرسمية للأجيال الجديدة، نظرا لشيخوخة الهياكل الوظيفية، ولا يتم تعيين عمالة جديدة إلا نادرًا على نحو ما يحدث فى تونس، والجزائر والمغرب..الخ.
9- سيؤدي الذكاء التوليدى خلال الفترة من 2026 إلى 2030 إلى الانتقال إلي عالم الروبوتات، والذكاء التوليدى وإسناد بعض لوظائف لهم كان يقوم بها الذكاء والعمالة البشرية، وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع نسب البطالة حتى بعض الأجيال بما فيها جيل (z) وآلفا فى 2030، وما بعد، وذلك يعني أن التركيبات الجيلية للعمالة فى مؤسسات الدول المتقدمة والمتوسطة ، وأيضا المتخلفة، سيتغير داخلها مفهوم المؤسسية جذريا، ولن يعتمد على الدور والذكاء والجهد البشري، وإنما ستلعب الروبوتات والذكاء التوليدى، والبرامج الرقمية دورًا بارزًا فى العمل المؤسسى واستقلاليته، وقواعد عمله، بما فيها غالب الدول والمجتمعات العربية، ومن ثم ستتغير الثقافة المؤسسية ويتداخل فى تكوينها الجديد التفاعل بين الذكاء التوليدي والذكاء البشري، فى العمل والتخطيط ووضع معايير العمل، والإنجاز، والمساءلة.
ثورة الذكاء التوليدي وعالم الروبوتات ستساهم فى إيجاد حلول لأزمات المؤسسات والثقافة المؤسسية فى دولة ما بعد الاستقلال فى عالمنا العربي.
المصدر: الأهرام