في أهمية العَلمانية للاجتماع السياسي السوري (1 – 3)

د- عبدالله تركماني

تعيش البشرية تحوّلات كبرى، في مجتمعاتها وقيمها ومفاهيمها، وفي سياق هذه التحوّلات وما كشفته الثورة السورية من شروخ في المجتمع، تبدو أهمية العلمانية للاجتماع السياسي السوري، الذي يقتضي أنّ ” السياسة فعالية دنيوية “، وأنّ الهدف هو بناء الدولة الوطنية السورية الحديثة، دولة كل مواطنيها الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات، دولة القانون والحقوق والمؤسسات. إذ يبدو من الصعب التقدم نحو الحرية المنشودة من دون التعاطي مع التناقضات الاجتماعية بشكل مجدٍ، خاصة مسألة التمييز الديني أو المذهبي أو القومي على كافة مستويات الحياة العامة، بما فيها قضايا الأحوال الشخصية.

وانطلاقاً من أنّ الواقع يفرض ديمومة مظاهر التديّن، فإنّ مشروع هذه القراءة لأهمية العلمانية يقوم على الفصل المنهجي بين ميداني العقيدة الدينية (العقائد والعبادات) والمنجز الحضاري للحداثة السياسية، بما هو تراكمات (المعاملات)، حصلت في مجالي المجتمع والسياسة. ولكن، باعتبار أنّ فصل الدين عن الدولة، وتمايز المجتمع منها، واستقلاله النسبي عنها، فإنّ العلمانية في الدولة الحديثة تتجلى في أنّ مجال الدين هو المجتمع لا الدولة، أي جزءً من الحريات العامة للفرد في الحيّز العام، باعتبار أنّ الدين شأن خاص بالفرد. وبهدف ” تجنّب الوصول إلى تحوّل العلمانية إلى علمانوية، تواجه مجتمعاً متديناً، ومن أجل تحقيق حالة لا يلتقي فيها التحرر من الإكراه الديني إكراهاً علمانياً ” (1).

وعليه، فإنّ هذه القراءة سوف تحاول الإحاطة بـ: ماهية العلمانية، وكيفية تعاطي الخبرة الإنسانية معها، ودحض تخوّفات بعض الإسلاميين، ودروس بعض التجارب الإسلامية ذات النزعة العلمانية.

1 – ماهية العلمانية

نظام عام عقلاني ينظّم العلاقات بين الأفراد والجماعات والمؤسسات، فيما بينها ومع الدولة، على أساس مبادئ وقوانين مستمدة من الواقع الاجتماعي والتجربة التاريخية، يتساوى أمامها جميع أعضاء المجتمع ومكوّناته، بصرف النظر عن الانتماءات الدينية والقومية والفكرية. ولمّا كان الأمر كذلك، فإنّ العلمانية تجد مرتعها الخصب في إطار من الديمقراطية، التي تمَارس عقلانياً وتنويرياً، وذلك على نحو تغدو فيه الديمقراطية والعقلانية والتنوير أحد أوجه العلمانية، وصيغة من صيغ التحفيز عليها.

إنّ العلمانية ارتبطت بأكثر من معنى، فهي ليست فقط فصل الدين عن الدولة كما هو شائع في بلادنا، بل كان الارتباط الأوثق بين العلمانية والدولة الوطنية الحديثة، حين انبثقت من ثقافة ديمقراطية وصراع في سبيل التقدم وكرامة الإنسان، حيث جاءت بمثابة تأكيد على قدرته على تنظيم شؤونه تنظيماً عقلانياً مجدياً. لذا فإنّ المبدأ الأساسي في العلمنة يؤكد أنّ الدين أمر شخصي، وينبغي فصله عن الدولة والمدرسة والأحوال الشخصية.

وعندما تطرح العلمانية، بمعنى عدم تدخّل الدولة في الشؤون الدينية والفكرية لمواطنيها، فإنها ” أقرب لأن تكون مفهوماً سياسياً، يشكل ضمانة أكيدة للمساواة والتلاحم في المجتمع، حين تكون العلاقة بالوطن والدولة علاقة سياسية وليست علاقة دينية، قد تحدُّ من المساواة السياسية بين أصحاب الديانات والقوميات المختلفة ” (2).

إنّ العلمانية تقتضي ” نشوء منطق الدولة الذي يتغلب على الاعتبارات الدينية، حيث يصبح الحكم السياسي على الأمور نابعاً من مصالح الناس في الدنيا… وهذه المرحلة من علمنة الدولة والقانون ممكنة التطبيق، حتى قبل بلوغ المجتمع وأنماط الوعي فيه درجات عالية من العلمنة. وتحييد الدولة في الشأن الديني قانونياً ممكن حتى في مجتمع متدين، بل بالذات في المجتمع المتدين. وقد يحتاج إلى حماية الدولة لحرية ممارسة الدين، حيث تتعدد الديانات والطوائف، أو حيث أدى استخدام الدين للدولة، أو الدولة للدين، إلى تقييد العقيدة المخالفة وممارستها ” (3).

وتحضر العلمانية، عند المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ، بمثابتها ” منظومة متكاملة، تستدعي جميع حيّزات التجربة التاريخية للأمة: معرفياً، واجتماعياً، وسياسياً ” (4). وهنا نلاحظ أنّ التلازم الذي طرحه بين الدولة الوطنية الحديثة والعلمانية لم يتوقف عند حدود السطح السياسي، والترسيمات المحدودة عن ” فصل الدين عن السياسة ” بل استعاد المنظور المعرفي دوره، بوصفه أساساً جوهرياً لبناء الدولة الحديثة. وعندما سُئل المفكر السوري الراحل الطيب تيزيني عن تعريفه للعلمانية وعلاقتها بالديمقراطية والإسلام، قال ” هي منظومة من الأفكار تؤسس لوجود البشر، الذين يوجدون في مجتمعات قائمة على التعددية الدينية والإثنية والسياسية والطائفية، هي أكثر من أن تكون ناظماً لفكرة العلاقة بين الدولة والمجتمع، لأنها تدخل في خصوصيات كل هذه المسائل “. وردّاً على أولئك الذين يصفون العلمنة بـ ” الزندقة “، قال ” علينا أن نأخذ المصطلح كما يدل عليه في وجوده الغربي، الذي لا يعني الإلحاد ولا يعني الزندقة، وإنما يعني منظومة من المفاهيم والمصطلحات والأفكار التي تضبط علاقة البشر بمنظوماتهم الطائفية الإثنية المذهبية بالسلطوية السياسية، وبالتالي لا تسيء لأحد ضمن هذا المنظور العمومي. نحن هنا نحتاج الديمقراطية معلمنة والعلمانية ديمقراطية، وبهذا المعنى نكون قد أسسنا لما هو قابل للتبنّي أو الاستلهام، سواء كان علمانياً أو أي فكرة يجري تداولها في الفكر العالمي ” (5).

كما اعتبر تيزيني أنّ شعار ” الدين لله والوطن للجميع ” التعبير المكثّف عن العلمانية، بمعنى ” الفصل بين الدين والدولة “، وحسب تعبيره فإنّ هذا الشعار ينطوي على معنى التحوّل إلى ” وجه مدني من الوطن المدني والدولة الوطنية “، أما الموقف العقيدي، أي الموقف من الله، فقد ” اعتُبر شخصياً بقدر ما اعتُبر محترماً ومصوناً “. وقد اتضح له أنّ ” الطائفية العقيدية الدينية يمكن تحويلها إلى نسق سياسي، من شأنه أن يسعِّر الصراع الديني والإثني بين الأقليات والأكثرية ” (6).

وثمة وجه آخر للعلمانية، يمكن أن يكون مهماً للدولة الوطنية السورية الحديثة، التي تتفوق على المؤسسة الدينية وتحتكر العنف، من حيث أنها فاعل أساسي في جدلية التقدم والتخلف، على أنها ” جهاد في سبيل الدنيا كخيار بديل عن الجهاد في سبيل الآخرة “. إذ ينظر المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي إلى العلمنة بوصفها مسألة جهادية دنيوية، أحدثت تحوّلات هائلة في المجتمعات الغربية، وقام نجاحها بعد أن أخذت مستويات متعددة (7): أولها، ” العلمنة الدينية ” التي كسرت احتكار الكنيسة للإيمان، وردّت الإيمان إلى الشخص البشري، وكسرت احتكار تأويل النصوص المقدسة. وثانيها، ” العلمنة الثقافية ” التي أعتقت الأدب من ربقة التصوّر الديني للعالم، وجعلته متمحوراً حول الإنسان ومصيره الدنيوي. وثالثها، ” العلمنة اللغوية ” التي تمثلت بالتمرد على لغة الكتاب المقدس، عبر تكريس اللغات العامية الدنيوية. ورابعها، ” العلمنة الإنسانية ” التي أعادت عملية إحياء الثقافة الوثنية للعصور القديمة. وخامسها، ” العلمنة العقلانية ” التي اقترنت بإعادة اكتشاف الفلسفة اليونانية التي كانت ترى إلى العقل كمعطى أول، مما جعل الفلسفة تعمل في أمرة العقل وتحت سيادته، بعد أن كانت سابقاً خادمة للاهوت. وسادسها، ” العلمنة العلمية ” التي أفادت من الثورة الكوبرنيكية، لتوجّه طعنة إلى النظرية التوراتية حول الكون ومركزية الأرض والقول بمركزية الشمس، والأهم من كل ذلك تكريس حق العلم، وبالتالي العقل البشري، في التحرر من الأساطير الغيبية، وفي التثوير الدائم واللامتناهي للمعرفة الدنيوية. وسابعها، ” العلمنة الطبقية ” المتمثلة بظهور وصعود الطبقة البورجوازية، التي حصرت جهادها بالأرض وليس بالسماء، وتمحورت فلسفتها حول المادة أكثر منها حول الروح. وثامنها، ” العلمنة القانونية ” التي أكدت على نقل مبدأ التشريع من الله وخلفائه على الأرض إلى الشعب، عبر ممثليه في البرلمانات. وتاسعها، ” العلمنة السياسية ” التي حصرت مبدأ السيادة بالأمة، والتي ساهمت في نشوء وتبلور الدولة/الأمة أو الدولة الوطنية. وعاشرها، ” العلمنة الجنسية ” حيث تفتقت هذه العلمنة عن تحرير مزدوج للحياة الجنسية البشرية من ربقة الجريمة وربقة الخطيئة معاً.

ولا شك أنّ هذا التمييز بين العلمنة، كسيرورة تاريخية وحضارية، وبين العلمانية كآلية قانونية ضروري، لا لتفهّم واقعة الحداثة الأوروبية وحدها، بل كذلك لتفهّم واقعة تعلمن المجتمع، بالتوازي والتواقت مع تعلمن الدولة في البلدان الأوروبية، على خلاف ما حدث في روسيا البلشفية أو تركيا الكمالية، حيث أجبرت الدولة المجتمع على اعتناق العلمانية وفرضها عليه فرضاً، كأيديولوجيا أو حتى كدين بديل.

وهكذا، فإنّ العلمنة هي ” نموذج سوسيولوجي في فهم المراحل الحديثة وتفسيرها في عملية تمايز وتمفصل، بدأت منذ وعي الدين باعتباره ديناً “. وباعتبارها تطوراً تاريخياً متعيّناً، منذ فجر الحداثة والثورة العلمية ” تتجلى في انحسار الدين من مجال فكري واجتماعي بعد آخر، بما في ذلك تحييد الدولة في المجال الديني، وتحييد العلم دينياً ” (8). وهي كمفهوم ” اسم لأنموذج تفسيري لعملية تطور إنسانية عامة، على مستوى التاريخ الطويل، في ما يتعلق بمعرفة الظواهر، وفي ما يتعلق بعلاقة السلطة الدينية بالسلطة السياسية أو الدين بالدولة ” (9).

لقد كان للعلمنة وجهان في الحداثة الغربية (10): أولهما، فرانكفوني (العلمانية الصلبة)، يعني علمنة المجتمع وانحسار التدين، وتآكل هيمنة الثقافة الدينية وممارساتها وتعبيراتها. وثانيهما، أنكلو ساكسوني (العلمانية الناعمة)، لم يبدأ بكنيسة تحتكر المجال الديني والثقافي وتشارك في السياسي، بل بدأت بتعدد كنائس يجري تحييد الدولة فيما بينها، وتعرض نموذجاً حيوياً جداً لبقاء الدين والتدين وتطورهما في المجتمع في حيّزهما الخاص والعام، ولا يتدخل الدين في الاختصاصات العلمية والمهنية والاقتصادية. وكان لذلك أثره أيضاً في فهم الدولة العلمانية وتحديدها، باعتبارها أيديولوجيا سياسية ودستورية في الحالتين.

وهكذا، توصلنا النقاشات السياسية المعاصرة، في شأن الدين والسياسة، إلى نتيجة مفادها أنّ الطريق الفضلى لتحييد الدولة في الشأن الديني ” هي مسار تاريخي لا يؤدي إلى وصول أوساط إلى هذه القناعة ببرامج ثقافية وسياسية تدعو إلى هذا الفصل أو التحييد فحسب، ونسميهم علمانيين بالمعنى الأيديولوجي للكلمة، بل إلى وصول المتدينين أيضاً إلى قناعة مفادها ضرورة تحرير الدين من سيطرة الدولة. هذه الطريق تُبنى على ظرف نشوء العلمانية من خلال تأكيد الحرية الدينية وحماية تعدديتها ” (11).

إنّ السياسة فعالية دنيوية ” هي فعالية بشرية أكثر مما هي تفويض إلهي، تهتم بالشؤون الدنيوية ” (12). وهذه النقطة حاسمة لأنها ” مرتكز مفهوم السيادة والحاكمية “.

الهوامش

1 – د. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الجزء 2 من المجلد 1، بيروت ط1، كانون الثاني/يناير 2015، ص 94.

2 – د. عبدالله تركماني، العلمانية المؤمنة ضمانة للتقدم العربي، صحيفة ” الوقت ” البحرينية – 6 آب/أغسطس2009.

3  – د. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء 2 من المجلد 1، المرجع السابق، ص ص 62 – 63.

4 –  ياسين الحافظ، التجربة التاريخية الفيتنامية/تقييم نقدي مقارن مع التجربة التاريخية العربية، دار الحصاد، دمشق ط3 1997، ص ص 23- 24.

5 – حوار محمد ديبو مع الطيّب تيزيني، الموقع الإلكتروني ” الأوان “، 2 نيسان/أبريل 2009.

  • – د. الطيّب تيزيني، على طريق الوضوح المنهجي (كتابات في الفلسفة والفكر العربي)، دار الفارابي، بيروت 1989، ص ص 53 – 54.

7 – جورج طرابيشي، هرطقات 2/عن العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلامية، دار الساقي – بيروت ط1 2008، ص ص 99 – 104.

8 – د. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الجزء 1 من المجلد 1، بيروت ط1، كانون الثاني/يناير 2013، ص 239.

9 – د. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء 2 من المجلد 1، المرجع السابق، ص 41.

10- د. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء 1 من المجلد 1، المرجع السابق، ص 240.

11- د. عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الجزء 2 من المجلد 2، بيروت ط2، تشرين الأول/أكتوبر 2015، ص 282.

12 – فرانسوا شاتليه، ترجمة د. أنطون حمصي، تاريخ الأيديولوجيات، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق 1997، ج2 ص 304.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى