الانتخابات السورية… مفارقات وإشكالات

مالك ونوس

بعدما كان اتجاه السلطة الجديدة في سورية ينحو نحو تأجيل أي انتخابات إلى سنوات مقبلة، بدافع من أسباب موضوعية وذاتية خاصة بها وبالبلاد، أصدر الرئيس أحمد الشرع، وبشكل مفاجئ، في 13 يونيو/ حزيران الماضي، المرسوم رقم 66 لعام 2025، والذي قضى بتشكيل “اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب”، مستنداً بذلك إلى المادة 24 من الإعلان الدستوري. وبينما لم يتوقع السوريون إطلاق عملية الانتخابات بهذه السرعة، جاءت الخطوة لتزيد الانقسامات والخلافات حول ضرورتها وأهدافها، ومدى شرعيتها في نظر أبناء البلاد والمجتمع الدولي. كما تفاعلت النقاشات وتفضيل بعضهم عدم إجراء انتخابات من أي نوع قبل البتّ بالاستحقاقات الأهم، إضافة إلى عدم جواز إجرائها في ظل معاناة البلاد من توتر أمني، ومن غزو خارجي لأراضيها أو تمرّد في أحد أقضيتها، وهذا ما ينطبق على سورية بجدارة، ويجعل قابلية الطعن بنتائج هذه الانتخابات وشرعيتها جائزاً في أي لحظة.

وكان الشرع قد تحدّث إلى إحدى القنوات التلفزيونية العربية، أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قائلاً إن تنظيم انتخابات قد يحتاج أربع سنوات، يسبقها إعداد دستور جديد، والذي قد يستغرق ثلاث سنوات. وعزا السبب إلى الحاجة إلى إجراء إحصاء سكاني قائلاً: “أي انتخابات سليمة ستحتاج إلى القيام بإحصاء سكاني شامل”. وهو أمر ردّده في ما بعد، مضيفاً أنه يفترض بهذا الإحصاء أن يشمل أيضاً السوريين في أماكن نزوحهم داخل البلاد، وأماكن لجوئهم في دول الجوار أو الدول الغربية، وهذه تُعدُّ من المصاعب التي تحتاج تضافر الجهود وتوفر المقومات غير المتوفرة حالياً. وكما كان متوقعاً، تبيَّن أن الهدف الرئيس من هذه الانتخابات إقرار الاتفاقات والمعاهدات الدولية، إذ قال الشرع، بعد اطلاعه على سير العملية الانتخابية، في 5 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري: “القوانين معطّلة في سورية وتحتاج إلى تصويت، والموازنات أيضاً تحتاج إلى تصويت”. ولكن لا أحد يعلم ما الذي دفع فجأة إلى تأسيس هذا المجلس، على مبدأ تعيين ثلث أعضائه تعييناً مباشراً من رئيس الجمهورية، وتنظيم الانتخابات لاختيار العدد الباقي عبر “هيئات ناخبة”، وهذه الهيئات عيّنتها “لجان انتخابات فرعية” عيّنتها بدورها لجنة عليا شكلها الرئيس بموجب صلاحياته التي حدّدها الإعلان الدستوري. في حين أن حجم التمثيل الشعبي غير واضح، لأن عموم الشعب لا يدلون بأصواتهم في هذه الانتخابات، بل هي محدودة بما يقارب 1500 مرشّح تصطفي “الهيئات الناخبة” 140 مرشحاً منهم.

ربما أرادت السلطة الجديدة من هذه الانتخابات أن تكون أداة لقياس مستوى الولاء الشعبي، ولكن ليس بالولاء للسلطة وحده تبنى البلدان

وبغض النظر عن شرعية هذه الانتخابات التي تحدّدها شروط الظروف الأمنية التي تمر بها البلاد، وغياب عامل الرقابة الدولية التي تحدد مدى نزاهتها، وبغض النظر عن ضرورة البتّ في استحقاقاتٍ أكثر أهمية، من قبيل العدالة الانتقالية والتسوية السياسية وملفات المفقودين وغيرها، والتي كان يجب البتّ بها قبلاً من أجل زيادة استقرار البلاد، هنالك مفارقات عديدة تطرحها هذه العملية. إحدى هذه المفارقات غياب ثلاث محافظات، السويداء والرقة والحسكة، التي تسكنها أقليات درزية وكردية، عن المشاركة بهذه العملية نتيجة الاستبعاد ونتيجة إحجام أهلها عن المشاركة فيها. فمن ناحية الاستبعاد، صرّح عضو اللجنة العليا للانتخابات نوار نجمة، للوكالة العربية السورية للأنباء (سانا)، في 23 أغسطس/ آب الماضي: “اللجنة العليا قرّرت إرجاء العملية الانتخابية في المحافظات المذكورة إلى حين توفر الظروف الأمنية المناسبة والبيئة الآمنة لإجرائها”. ولكن، هل يمكن القول إن المحافظات الأخرى تتوفر فيها ظروف أمنية مستقرّة حتى تجرى فيها الانتخابات وتحرم منها أخرى؟ كان من الحري تأجيل هذه الانتخابات حتى تستقر أوضاع المحافظات المستبعدة، خصوصاً أن نجمة قد أضاف: “مخصّصات هذه المحافظات الثلاث من المقاعد ستبقى محفوظة إلى حين إجراء انتخابات فيها بأقرب وقت ممكن”، فهل سيجري إقرار قوانين تخص هذه المحافظات، في غياب ممثليها ومن دون أن يكون لأهلها وسكانها الذين يصل عددهم إلى أكثر من خمسة ملايين نسمة أي رأي فيها، ما يجعلها تفرض فرضاً عليهم وتصبح سبباً للخلاف المستقبلي مع دمشق؟

مفارقة أخرى تتعلق بمبدأ فصل السلطات، فكما أن رئيس الجمهورية يُعدُّ، بموجب الإعلان الدستوري، هو ذاته رئيساً للحكومة، فستجعله هذه الانتخابات رئيساً لمجلس الشعب بشكل غير مباشر أيضاً. فإضافة إلى صلاحياته بتعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب الحالي، عيّن لجنة عليا للانتخابات، أنيطت بها مهمة تشكيل “لجان انتخابات فرعية” و”هيئات ناخبة” في 11 محافظة من أصل 14، مهمتها ترشيح أعضاء لانتخابهم. ولافت أنه يحق لأعضاء هذه الهيئات الناخبة الترشح أيضاً. وهنا يمكن الاستنتاج أنه وبحكم اختيار الرئيس ثلث أعضاء المجلس، وتشكيله اللجنة العليا ممن يثق بهم وبولائهم، والتي ستختار هي من تثق بهم وبولائهم للحكم الجديد ورئيسه، سيكون جميع الأعضاء موالين له، ما يكرّسه رئيساً للسلطات الثلاث. لذلك، لا وجود لصوت معارض أو مخالف في مجلس الشعب الجديد، ما يضمن للرئيس الحصول على إجماع هذا المجلس على القوانين والاتفاقات التي يدفعها إليه للتصويت عليها وتصديقها.

جازفت القيادة السورية بإجراء هذه الانتخابات في ظل انقسام جغرافي وسياسي تعانيه البلاد

هنالك مفارقة أخرى طارئة ومستجدّة، وربما يمكن تصنيفها نافرة، ليس بسبب شخصه أو ديانته، ولكن بسبب انعدام وجود من يمثلهم، وهي ترشّح الحاخام اليهودي السوري الأميركي هنري حمرا، من دون وجود مجموعة يهودية كافية من ناحية العدد (لا يتجاوز عدد اليهود في دمشق عدد أصابع اليد)، لكي يمثلها ولكي تضمن له الفوز في الانتخابات، علاوة على معضلة ازدواج الجنسية، كونه يحمل الجنسية الأميركية إلى جانب السورية. كما أن من غير المعروف إن كان يحمل الجنسية الإسرائيلية، وهذا قد يفجر خلافات مستقبلية وتصبح له إشكاليات إن تأكّد هذا، خصوصاً إذا ما تفاخر الإسرائيليون، في مقبل الأيام، بأن هنالك من يمثلهم في البرلمان السوري، ومن الممكن لبنيامين نتنياهو نفسه أن يتفاخر بهذا الإنجاز ويجيِّره لصالحه.

يمكن القول إن القيادة السورية جازفت بإجراء هذه الانتخابات في ظل انقسام جغرافي وسياسي تعانيه البلاد، وفي ظل عدم التأكد من مدى قبول المجتمع الدولي نتائجها، كونها استبعدت فئة كبيرة من السوريين ومنعتها من المشاركة بها. كما أجرتها في غياب تسوية سياسية وتوافق داخلي، ما قد يكون له تأثير على اعتراف المجتمع الدولي بالحكومة المقبلة وشرعيتها. ولأن الانتخابات كرّست غياب مبدأ فصل السلطات، ما يؤثر على صورة الحكم الجديد، ويعطي انطباعاً بعدم وجود تغيير فعلي في شكل الحكم في سورية، ويجعل البلاد مهدّدة بالعودة إلى حكم الفرد. لذلك، ربما أرادت السلطة الجديدة من هذه الانتخابات أن تكون أداة لقياس مستوى الولاء الشعبي، ولكن ليس بالولاء للسلطة وحده تبنى البلدان، خصوصاً تلك التي عانت شعوبها، على مدى عقود، من تبعات الولاء المطلق للحاكم، بعدما أشاحت نظرها عن انتهاكاته وإجرامه خاضعةً راضيةً.

 

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى