من يوقف إطلاق النار في الضفة الغربية؟

  حلمي الأسمر

بينما اتجهت عدسات الإعلام نحو احتفالية شرم الشيخ، وصفقات السياسة، ومشاهد الإعمار، والاحتفال في غزّة بوقف إطلاق النار، يتكشّف في الضفة الغربية فصل جديد من المأساة الفلسطينية: عنفٌ استيطانيٌّ منفلتٌ من كل قيد، وإرهابٌ منظّمٌ يهدف إلى تفريغ الأرض من سكّانها الأصليين. منذ توقّفت الحرب في غزّة، وثّقت الأمم المتحدة أكثر من ألف هجمة شنّها المستوطنون على قرى الضفة الغربية ومدنها بمعدل أربع هجماتٍ يومياً، تنوّعت الجرائم بين القتل المباشر، وحرق المنازل والمزارع، وتخريب شبكات المياه، ومنع المزارعين من الوصول إلى أراضيهم، بل وتدنيس أماكن العبادة المسيحية والإسلامية على السواء.

ما يميّز هذه الموجة من العنف، ليس اتساعها الجغرافي فحسب، بل التواطؤ البنيوي الذي يغلّفها، إذ تحرس “الدولة” المجرمين. تؤكّد تقارير أممية ومنظّمات حقوقية أن قوات الاحتلال لا تتدخّل في معظم الحالات إلا بعد انتهاء الاعتداءات، وأحياناً ترافق المستوطنين في أثناء اقتحاماتهم القرى. يحوّل هذا النمط من “الحماية الصامتة” الاعتداء من فعلٍ فردي إلى سياسة أمر واقع، تمنح المستوطنين شعوراً بأنهم فوق القانون، وتمنع الفلسطيني من أدنى حقوقه في الحماية أو العدالة.

لم يعد العنف الاستيطاني عشوائيّاً. إنه أداة هندسة ديموغرافية تهدف إلى تحويل مساحات في المنطقة “ج” فضاءً يهوديّاً خالصاً. الهدم الإداري للمنازل، وحرمان الفلسطينيين من تصاريح البناء، وقطع الطرق… كلّها أدوات “ناعمة” لإيجاد بيئة طاردة للسكّان الأصليين، تطبيقاً لسياسة الأرض الخالية. حتى موسم الزيتون (رمز الارتباط بالأرض) صار هدفاً استراتيجياً. أكثر من 15 ألف شجرة زيتون أُحرقت أو اقتُلعت العام الماضي (2024)، وفق إحصاءات الأمم المتحدة.

حين يُقتل الفلسطيني ولا يُحاسَب أحد، وحين يُهجَّر المزارع من أرضه في وضح النهار، يصبح الإفلات من العقاب سياسةً رسميةً، لا خللاً قانونياً. … وقد حذّرت الأمم المتحدة أكثر من مرّة من أن استمرار هذا النمط قد يرقى إلى “ترحيل قسري ممنهج”، وهو توصيف يدخل في نطاق جرائم الحرب حسب القانون الدولي. لكنّ الردّ الإسرائيلي كان زيادة في بناء المستوطنات وتكريس الحماية للمعتدين، إمعاناً في تطبيق سياسة تشريع الجريمة وقوننتها. في القرى الصغيرة الممتدّة بين الخليل ونابلس تتكرّر القصص، ونرى الوجه الآخر للمأساة: أطفال يفقدون منازلهم للمرّة الثالثة، نساء يبتن في العراء، مزارعون يشاهدون بساتينهم تُحرق أمام أعينهم.

الاستيطان ليس قضية سياسية بل جريمة ضدّ الإنسانية تتطلّب محاكمة وعدالة

تتحدّث المنظمات الإنسانية عن أعلى معدّلات نزوح داخلي منذ عام 2009، فيما يعجز المجتمع الدولي عن فرض حماية حقيقية للمدنيين، كأنّ الاحتلال بعد أن فشل في إخضاع غزّة بالنار، قرّر أن ينتقم من الضفة بالتهويد والزحف البطيء، لكنّ الفارق الجوهري أن الضفة تُقتل ببطءٍ صامت، تحت غطاءٍ قانوني وإداري يشرعن الطرد والاقتلاع. إنها حربٌ بلا صواريخ، لكنّها أشدّ فتكاً لأنها تمحو الوجود الفلسطيني من جذوره، لا من سطح الأرض فقط، ترى من يوقف الزحف؟

لن تكفي بيانات التنديد ولا بيانات القلق الدبلوماسي. المطلوب تحقيق دولي مستقلّ في جرائم المستوطنين، ومساءلة قانونية لكل مسؤول سياسي أو عسكري سهّل أو سكت عن هذه الجرائم. لقد آن الأوان أن يُعامل الاستيطان لا قضيةً سياسيةً قابلةً للتفاوض، بل جريمة ضدّ الإنسانية تتطلّب محكمة وعدالة، لا مؤتمراً جديداً للسلام.

الأكثر أهميةً من ذلك كلّه استلهام تجربة غزّة في المقاومة، فيأخذ الشعب أمره بيده، من دون انتظار عون من أيّ جهة كانت. فمعركة غزّة لم تكن لتنتهي (وحتى ولو كانت هذه النهاية في صورة هدنة قد تطول أو تقصر) لولا مبادرة أهل غزّة للدفاع عن أنفسهم، رغم الثمن المخيف الذي دفعوه، علماً أن أهل الضفة الفلسطينية يدفعون هذا الثمن بالمفرّق، بعد أن دفعه أهل غزّة دفعة واحدة، رغم عدم وجود هجوم في الضفّة على غرار ما حدث “7 أكتوبر” (2023). بمعنى آخر، لا يحتاج الاحتلال ذرائع كي يرتكب جرائمه.

اليوم بعد أن وُقّع اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة، من يوقّع اتفاقاً موازياً في الضفة الغربية؟ وكيف؟ ومتى؟ فما يجري حرب بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، حرب غير متكافئة بين جيش بكامل عتاده وشعب أعزل، “تمثّله” سلطة بلا سلطة، بل تكاد تكون سلطتها الأكثر فاعليةً مطاردة المقاومين، امتثالاً لاشتراطات التنسيق الأمني.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى