
كنت ضيفاً في مدينتي “حمص” لمدة 45 يوماً. يبدو غريباً التعبير بأنك ضيف في مدينتك، وكأنك تزورها لا كي تعود إلى البيت على عادتك، لكن لتتأمل ما تبقى منها، أو ما تغيّر فيها، وربما، الأهم، لتتحسس ذلك الرابط الذي لا يزال يصلك بها، فتتفحّصه إن كان خيطاً رفيعاً واهياً أم حبلاً مُحكماً.
كانت هذه زيارتي الثانية إلى سوريا بعد تحررها وكسر قفل “الأبد” الأسدي. نعم، البلد تحررت، طبعاً ليس بالمعنى الكامل، وليس كما حلمنا، لكن أقلّه كُسر القيد الذي سجَن البلد لأكثر من نصف قرن، وهذه بحد ذاتها بداية إيجابية. دخلت المدينة مشحوناً بالتوقعات. حاولت أن أكون منصفاً، فأراقب بعينين مفتوحتين لا بعينين دامعتين كما يفعل بعض من يقيمون خارج سوريا، ممن يغلبهم الحنين.
للأمانة، رأيت تغييراً حقيقياً في بعض الزوايا: الحياة بدأت تستعيد دورتها وإن بخجل، محالٌّ تُفتح، شباب يعودون، حركة بناء في بعض الأحياء المُدمّرة، وما لفتني أكثر من أي شيء آخر، أن النكات السياسية، التي كانت تودي بصاحبها إلى الهلاك قبل عام، باتت تُتداول دون تحفظ وبصوت عالٍ في المقاهي، وكأن الجدران السورية كفّت عن أن يكون لها آذان. لكن، وكما هي العادة في البلاد المنهَكة، لا يأتي التغيير دفعة واحدة، ولا من كل الجهات.
أقمت في حي الحميدية ضمن المدينة القديمة. كان عليّ كل يوم أن أقطع الطريق من ساحة “الساعة العتيقة” إلى البيت أكثر من مرّة. الرحلة اليومية البسيطة تحولت إلى مرآة رأيت فيها وجه سوريا كله، كما لو أن شارع الحميدية هو مجاز الوطن. في ذلك الطريق، لا مكان للمشي على الرصيف. الأرصفة لم تعد للمشاة، بل استولى عليها أصحاب المحلات، ومدّوا بضاعتهم حتى ما بعد الحافة
أما ما بعد الرصيف من الشارع، فقد احتله الباعة الجوالون بعرباتهم، وتوقفت فيه السيارات كيفما اتفق. مما اضطرني للسير في منتصف الشارع. لم أكن الوحيد، فجميع المشاة، نساء ورجال وأطفال، يسيرون مثلي بين الدراجات النارية والهوائية المسرعة، إضافة إلى السيارات طبعاً، معرضين أنفسهم لاحتمالات الحوادث والإصابات. هكذا وجدت نفسي، مع مئات غيري، نسير وسط المخاطر، متنازلين عن أبسط حقوقنا، السير بأمان. بدا لي أن هناك من يحتل رصيف أماننا مادياً ومعنوياً، ويرمينا بين شتّى أنواع الاحتمالات، من الاصطدام بكتفٍ آخر وصولاً إلى حادثٍ مميت.
معظم الناس يتحدثون بأنهم لا يستطيعون التخطيط لأسبوعهم القادم. الأسعار بلا ضابط، والرواتب ما زالت شحيحة وتتآكل، والمساعدات، إن وُجدت، فإنها تُوزع بالقطّارة.
في كل يوم، وأنا أتفادى سيارة مسرعة أو دراجة مسرعة أكثر تسير عكس السير، كنت أفكر: إنه تماماً حال السوريين اليوم. فبالانتقال إلى كامل الجغرافيا السورية نحن، كمواطنين، لم نعد نمتلك “الرصيف” الذي صُمم أصلاً من أجلنا كمساحة للأمان والاستقرار والحماية. هناك من ما زال يستولي عليه، تجار الحروب وأمراء الميليشيات والمتنفذون. أما نحن، فسُحبنا إلى وسط الطريق، مكشوفين لكل أنواع الخطر، من الأمني إلى الاقتصادي، ومن الطائفي إلى الاجتماعي.
في سوريا اليوم، لا تمشي كمواطن آمن، بل كناجٍ في كل لحظة، في ظل الفوضى الأمنية، حيث تبدو الدولة غائبة عن الكثير من القطاعات، بينما هي حاضرة على الإعلام، وبقوّة أكبر، في المحافل الدولية. صديقي الذي طالما كان يحلم ببلد ديموقراطي حر، وصل به اليأس ليقول لي: “لم يعد يهمني اليوم شكل الدولة، ولا نوعية نظام الحكم، كل ما أطلبه الآن أن تكون لدينا مجرد دولة، نعم دولة فقط”. قولٌ يختصر أزمة ثقة كبرى. الناس لا يبحثون عن الرفاهية أو حتى العدالة المطلقة، بل عن الحد الأدنى من الشعور بالأمان، عن سلطة واحدة تضبط السلاح، وعن مؤسسات لا تُدار بالولاء بل بالقانون.
الخروقات الأمنية في حمص، وغيرها من المدن ليست مجرد حوادث معزولة. إنها مؤشرات خطيرة على غياب الردع، وتفكك منظومة السيطرة، وترك المواطن عارياً في وجه الاحتمالات. هناك من يستطيع أن يقتل أو يخطف، ثم يختفي بلا عقاب، وربما، في بعض الحالات، بغطاء من بعض الثأريين “المحسوبين على السلطة”. والأدهى أن هناك من يدعو للقتل على أساس طائفي، علانيةً على وسائل التواصل بفجاجة وقحة، وما زال يسير في الشارع ويعيش في بيته بأمان، دون أن يخشى العقوبة على تحريضه، الأمر الذي يطرح الأسئلة الصعبة. ما معنى أن تتحرر البلد من نظام الأسد المتطرف في جرائمه، ثم تظل أسيرة سلاح منفلت باسم طائفة أو فصيل؟ وما معنى أن تنجو من الحرب، لتسقط في فوضى يومية لا يبدو في الأفق أن هناك من يسعى جدّياً لضبطها؟
الوضع المعيشي ليس أفضل حالاً. فمعظم الناس يتحدثون بأنهم لا يستطيعون التخطيط لأسبوعهم القادم. الأسعار بلا ضابط، والرواتب ما زالت شحيحة وتتآكل، والمساعدات، إن وُجدت، فإنها تُوزع بالقطّارة. في المقابل، هناك من يراكم الثروة في زمن الشحّ والقلّة، ويمتلك أكثر من رصيف، بل أحياناً يمتلك الشارع بأكمله. هنا أيضاً، يتكرر المشهد: من يُفترض أن تحميه الدولة، يُترك في مواجهة السوق المتوحشة، حيث لا رقابة، ولا دعم، ولا استراتيجيات إنقاذ واضحة. كنت أعتقد أنني لن أجد من ما زال يتحدث عن مغادرة البلد، لكني، للأسف، قابلت العديد من هؤلاء. فحوادث القتل والاعتداء لأسباب اقتصادية أو طائفية لم تغب عن المدينة.
هل بدوت لكم متشائماً هذه المرّة؟ لا، ليس إلى هذا الحدّ. ما زالت مسحة التفاؤل لديّ أقوى، حتى الآن على الأقل، ومازلت أرى أن هناك فسحة للأمل. هذه ليست رومانسية فارغة، إنما إيمان بأن ما بدأ يجب أن يُستكمل بدفعٍ من قوّة يوميات عام 2011. تحررت سوريا من الطغيان، لكنها لم تُبنَ بعد. انكسر القيد، لكن لم تُصنع مفاتيح المستقبل على نحوٍ ناجز بعد. الفرصة لا تزال قائمة، لكنها تحتاج إلى رؤية جديدة، قائمة على ركائز واضحة.
أهم تلك الركائز استعادة الدولة كمفهوم جامع لا كجهاز قمع، وبالتأكيد الدولة التي يطالب بها الناس ليست الدولة البوليسية، بل دولة القانون والمؤسسات، حيث لا أحد فوق المحاسبة، ولا أحد يمتلك الشارع أو الرصيف. ثم هناك، تالياً، مسألة تفكيك اقتصاد الحرب وبناء اقتصاد وطني شامل، فلا يمكن بناء وطن على ريع السلاح أو الإغاثة والمساعدات. يجب إعادة الاعتبار للعمل، والقطاعات المنتجة، والتعليم، وليس بناء الشراكات مع التجار وشبكات المصالح. ثم تأتي الركيزة الأهم، ليس تالياً وإنما بالتوازي، عبر إطلاق عملية مصالحة وطنية حقيقية لا مبادرات شكلية. الخوف الوجودي ما زال يعشش في دواخل الكثير من السوريين. الجراح كثيرة، والآلام عميقة، ولا يمكن تجاوزها بالخطب والاحتفالات ولا بالبيانات الرسمية، إنما عبر حوار حقيقي، ومحاسبة عادلة، وإعادة دمج من تضرروا.
يجب أن نبدأ، بإعادة ترتيب الشارع السوري، لا وفق مصلحة من يملك القوة اليوم، لكن تبعاً لحقوق جميع السوريين ممن يستحقون العيش بأمان وكرامة.
الفراغ السياسي في سوريا اليوم لا يقل خطورة عن الفوضى الأمنية. بعد عقود من احتكار السلطة، لم تنجح المرحلة الانتقالية حتى الآن في إنتاج مشروع وطني جامع يطرح بديلاً حقيقياً. ما تزال النخب السياسية منقسمة، مترددة، أو أسيرة الولاءات الضيقة، في وقت يحتاج فيه السوريون إلى عقد اجتماعي جديد، يعيد تعريف الدولة، والمواطنة، والعدالة. لقد سقط الطاغية، لكن لم يظهر بعد مركز سياسي أخلاقي وفعّال يجمع الشارع تحت مظلة واحدة، تُنهي حالة “كل طائفة دولة” أو”كل فصيل سلطة”.
من أخطر ما تواجهه سوريا اليوم أن من يدّعي تمثيلها، في السلطة وبين صفوف معارضيها، غالباً ما يفتقد إلى الشرعية الشعبية الحقيقية. في المقابل، وكما لحظته في المدينة، يُقصى كثير من الفاعلين المدنيين والمثقفين وأصحاب الرؤى الإصلاحية عن أي دور فاعل. وهذا ما يمثّل الوصفة الناجحة لاستمرار حلقة الاستعصاء، فالتمثيل الزائف لن يُنتج سوى حلولاً زائفة. لا يمكن بناء دولة دون مشاركة حقيقية للناس في صياغة مستقبلهم، ولا يمكن ترسيخ الاستقرار على قاعدة الإقصاء والاستئثار وتوزيع المكاسب والغنائم. وحدها شرعية الناس قادرة على إعادة ضبط البوصلة.
حين كنت أعود إلى بيتي المؤقت، كنت أمنّي نفسي بأني سوف أرى رصيفاً عريضاً خالياً من التجاوزات في يوم قريب، لأتمكن من المشي عليه بأمان. كنت أراه رمزاً بسيطاً، لكنه عنى لي الكثير. بدا لي تحرير الرصيف يشبه حلمي لسوريا كلها، طبعاً “الرصيف” هنا ليس بصفته هامشاً، إنما كحيّز لحق المواطنة المتساوية. أن نستعيد هذا الحق، يعني أن يكون لنا مكان نحلم فيه بلا خوف ونعمل فيه بلا إذلال، ونعيش فيه كمواطنين حقيقيين. هذه ليست أمنية خيالية، بل هي من بديهيات الحياة الطبيعية. وسنصلها يوماً إذا بدأنا من حيث يجب أن نبدأ، بإعادة ترتيب الشارع السوري، لا وفق مصلحة من يملك القوة اليوم، لكن تبعاً لحقوق جميع السوريين ممن يستحقون العيش بأمان وكرامة.
المصدر: تلفزيون سوريا