
جولة النصر بدأت في تل أبيب، وكانت شرم الشيخ محطتها الثانية. في الأولى وأمام الكنيست احتفل ترامب بالحرب، وفي الثانية كانت أفراح السلام. وما الذي يحتاجه السلام أكثر من حضور عشرات من زعماء الدول، حتى يقفوا في صف فيكيلوا الثناء واحداً وراء الآخر للرئيس الأميركي، مع فواصل يقوم فيها بتهنئة نفسه. الغائب عن القمة هما طرفي الصراع، لا حماس دعيت بالطبع، وغاب نتنياهو بحجة الأعياد. أما الرئيس الفلسطيني فظهر في الصفوف الأخيرة، بوصفه ضيف شرف لا أكثر أو حاملاً للختم يستدعى ليضفي شرعية فلسطينية على الترتيبات الإقليمية التي استقر عليها الكبار.
لكن عن أي ترتيبات نتحدث! الإعلان الرباعي الذي وقعت عليه الولايات المتحدة ومصر مع قطر وتركيا، أقرب إلى موضوع إنشاء. وقبل أن يجف حبره، عادت إسرائيل إلى قصف القطاع وقتل المزيد من سكانه، وبعدها بساعات أعلنت عن إغلاق معبر رفح وخفض عدد شاحنات المساعدات إلى النصف. تظهر حماس وكأنها تتجهز للبقاء في القطاع كسلطة حكم لوقت طويل، قياداتها تصرح بأنه لا تسليم للسلاح إلا لجيش فلسطيني، وقوات الشرطة تنتشر بسلاحها في المناطق التي انسحبت منها القوات الإسرائيلية، وعمليات تصفية المتعاونين تنفذ علناً. لكن ترامب يقول: الحرب قد انتهت، ويكرر نتنياهو الأمر نفسه، فلا خيارات أخرى لديه. هل انتهت الحرب حقاً، أم أن كل ما في الأمر هو تخفيض وتيرة القتل؟
وراء ذلك الحشد الاستعراضي وتبادل النكات والتصفيق الحار والمتكرر، ثمة رغبة مشتركة من قبل جميع الحضور في غسل الأيادي من دماء غزة. المبالغة الاحتفالية تتناسب مع هول المذبحة، التي امتدت بطول عامين من دون أن يتدخل أحد لوقفها. والمفارقة المخزية أن الداعم الأول للإبادة، أي الولايات المتحدة، ترغم الجميع على شكرها على تحقيق السلام. الجميع يخرج رابحاً، ترامب المهووس بالإطراء يثبت لجمهوره أنه رئيس السلام، السلام الأبدي. في تل أبيب هو أفضل صديق لإسرائيل، وفي شرم الشيخ يضع زعماء العالمين العربي والإسلامي تحت جناحي الإمبراطورية.
القادة الغربيون الذين أطلقوا شرطتهم في الشوارع وفي ساحات الجامعات لقمع الاحتجاجات ضد الإبادة يبرؤن ساحتهم، هم صناع سلام أو على الأقل شهود عليه. ميلوني التي تواجه دعوى قضائية أمام الجنائية الدولية بتهمة التواطؤ في الإبادة، تتوسط الاستعراض أو يقذف بها هناك رغماً عنها، تارة يغازلها ترامب وتارة أخرى يحثها أردوغان على الإقلاع عن التدخين. ويعلق الرئيس الفرنسي: “مستحيل”، ثم يضحك وبعدها يقهقه الجميع. ثمة ما يثير الرعدة في ذلك الضحك.
من جهتها، تحتفي القاهرة بتغير اتجاه الرياح لصالحها. بعد عامين شعرت فيها بالتهديد الدائم من ناحية الشرق والضغط من قبل واشنطن، تعود لتصبح مركز الحدث. الرئيس المصري المغرم هو الآخر بالمهرجانات والمؤتمرات والمواكب، يستضيف الاستعراض الأكبر في المنطقة منذ مطلع الألفية. جمهور النظام المصري وخصومه، كلاهما يحتفلان باستعادة الدور المصري، فورة من الفخر الوطني أصابت الجميع. الأتراك يجدون لأنفسهم موطئ قدم في غزة بعد أن ثبتوا أقدامهم في سوريا. والدوحة تعيد تأكيد دورها بعد صدمة الضربة الإسرائيلية.
إلى جانب تلك المكاسب الرمزية، ثمة وصايتين تم إعلانهما، وصاية أميركية على إسرائيل ووصاية عربية-إسلامية تم فرضها على غزة أو على الفلسطينيين بالعموم. ليس من الواضح من يضمن من، هل تضمن الولايات المتحدة إسرائيل أمام حلفائها في المنطقة، أم أن هؤلاء الحلفاء يضمنون وفاء إسرائيل ببنود وقف إطلاق النار أمام الفلسطينيين، أو العكس أي هم الضامن لوفاء حماس بالاتفاق أمام تل أبيب؟ وبغض النظر عن الإجابة، يظل الخوف من أن يكون الاستعراض قد استهلك نفسه.
المصدر: المدن