
لم تمر زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع، إلى موسكو، مرور الصور البروتوكولية المعتادة. فبينما كانت المصافحة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تجري في قاعة الكرملين الرسمية، كانت وسائل التواصل في سوريا، وعلى امتداد الشتات السوري، تغلي بتأويلاتٍ متضاربة، بين من اعتبر اللقاء “لحظة سياسية تاريخية” تختصر تحولاً جذرياً في معادلات ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، وبين من رأى فيه “مناورة تكتيكية” تمضي نحو المصالحة مع قاتلٍ سابق من دون المرور عبر قاعة العدالة.
وأعاد ناشطون نشر مقطع الفيديو القصير الذي قال فيه الشرع لبوتين مبتسماً: “عندكم درج طويل، الحمد لله نلعب رياضة… لم نتعب واستطعنا الوصول إلى هنا”، كأنها عبارة تلخّص كل المفارقة بين الأمس واليوم.
وظهر الشرع برفقة وزيري الخارجية والدفاع، أسعد الشيباني ومرهف أبو قصرة، داخل القصر الرئاسي الروسي. وتساءل ناشطون عن سبب غياب بوتين عن مدرج الطائرة لاستقبال الشرع، معتبرين ذلك رسالة على “عدم الجدية”، قبل أن يوضح معلقون أن هذا الإجراء يتوافق مع البروتوكول الروسي الذي لا يلزم الرئيس باستقبال الضيوف في المطار، بل في قاعة اللقاء الرسمي لاحقاً، كما حدث مع الرئيس الصيني شي جينبينغ سابقاً.
غير أن القراءة السورية للتفاصيل البصرية كانت أبعد من الشكل. فقد تم تداول صور مأخوذة من عدسات الصحافيين المرافقين للشرع، وقد التقطت الرئيس السوري واقفاً من زاوية منخفضة، تجعل حضوره البصري أكبر من بوتين، وهو ما فسّره ناشطون بأنه رسالة مدروسة تعكس انتقال مركز القرار في سوريا من وضعية الاستجداء إلى خطاب الندية.
لكن ما جعل اللحظة أكثر رمزية في المخيلة السورية، هو استحضار مقطع قديم من أحد الوثائقيات، حين قال الشرع، وكان يومها شخصية مخفية الوجه والاسم: “اسمع، هذا هو الطيران الروسي”، في إشارة إلى القصف الذي استهدفه في منطقة كانت فيها الكاميرا تسجل شهادته. وبعد نحو عقد من الزمن، يظهر الرجل نفسه في موسكو، يصافح الرئيس الروسي، بينما خصمه السابق بشار الأسد، بحسب مصادر مختلفة، يقيم لاجئاً في ضاحية روسية ولا يسمح له بالتحرك علناً.
وأبرز ما أثار التفاعل في وسائل التواصل لم يكن اللقاء في حد ذاته، بل طبيعة المشهد وتناقضاته ورموزه. إذ تداول سوريون صوراً من إحدى زيارات الأسد إلى روسيا، حيث بدا الاستقبال متواضعاً وقاعة اللقاء صغيرة، مقارنين ذلك بالقاعة المذهّبة التي استُقبل فيها الشرع في قصر الكرملين، وكتب أحدهم: “الدنيا مقامات”، بينما علق آخر: “اللي قالوا روسيا ما بتعترف، يشوفوا العلم”، في إشارة إلى علم الثورة الذي رفع في القاعة.
مطالب كثيرة طرحت بأن يطلب الشرع من بوتين تسليم بشار الأسد، المتهم بارتكاب جرائم واسعة ضد السوريين، لمحاكمته. لكن مصادر دبلوماسية، أوضحت أن هذا الملف، ما زال معقداً للغاية ويتطلب آليات قانونية عبر مجلس الأمن أو محاكم خاصة، إضافة إلى موافقة روسية والتي تبدو مستبعدة في المدى المنظور. فحتى لو أرادت روسيا التفاوض على هذا الملف، فإن الشروط السياسية ستكون شديدة التعقيد.
لعبة ذكية
وتداول معلقون نظرية مفادها أن الشرع “يلعب لعبة ذكية”، ويستخدم زيارته لموسكو كبوابة لحل سياسي شامل يتضمن شطب اسمه من لوائح الإرهاب، وذلك عبر كسب دعم روسيا والصين داخل مجلس الأمن. لكن مراجعة قانونية دقيقة تظهر أن الشطب من لوائح الإرهاب الأممية لا يتم بقرار من دولة واحدة، بل من خلال لجنة العقوبات 1267 التابعة لمجلس الأمن، وعبر آلية دقيقة يُشرف عليها “أمين مظالم” مستقل، وتتطلب توافقاً داخل اللجنة الأممية. أما اللوائح الأوروبية والأميركية، فهي تخضع لسيادة تلك الدول فقط، ولا تمتلك موسكو أو بكين أي دور قانوني فيها.
ويبدو أن الشارع السوري انقسم إلى ثلاث سرديات واضحة: الأولى، تصفق لأي صورة تظهر الاعتراف الدولي بالحكومة الجديدة، وتعتبر اللقاء خطوة عملية نحو استعادة القرار السياسي. والثانية تحذر من أي تسوية تغفل العدالة، وتذكّر بأن العلاقة مع موسكو لا تُبنى على الندية بل على موازين المصالح الثقيلة. والثالثة تنتظر البيان الختامي لتعرف إن كانت الرمزية ستتحول إلى التزامات.
وفيما بقي مصير الأسد معلّقاً بين الدبلوماسية والعدالة، كان أحمد الشرع يصافح بوتين في قاعة المرايا، وهو يقول: “الحمد لله لم نتعب”، جملة ستبقى عالقة، لا لخفتها، بل لأنها خرجت من رجل طاردته الطائرات ذاتها التي تحلق اليوم فوق قصر الكرملين.
المصدر: المدن