لبنان العالِق بين احتمالي الحرب أو الحرب

دلال البزري

طوال سنوات تحكّمه بلبنان، أتى حزب الله على ما تبقى من الدولة اللبنانية. مارس أشكالاً من القمع على اللبنانيين، كانت أشدّها التي مُني بها أبناء طائفته. أطّر هؤلاء في نظام عسكري صارم. احتكر مقاومة إسرائيل، ولم يسمح إلا لمجموعات موالية له بـ”المشاركة”، من دون “القيادة”. وباستثناء المعركة التي أفضت إلى تحرير الجنوب عام 2000، خاض حروباً أخرى لا لزوم لها مع إسرائيل، ولا إرادة لبنانية فيها، ولا إدارة. ولاية إيران عليه معلنة ومصدر عزّة. ومن أجل إيران خرج من حدوده الوطنية، وخاض معارك طاحنة حفاظاً على بشّار الأسد، وأخرى أقل إثارة في الخليج العربي. سمّيت بـ”الدور الإقليمي”، أي ذات وقْع جيوسياسي، تدليلاً على ضخامة دوره.
وعندما اندلع “طوفان الأقصى”، شارك بما سمّاها “حرب الإسناد”، باسم “وحدة الساحات”. متوهّماً أن “قواعد الاشتباك” التي سادت بينه وبين إسرائيل لن تتزحزح، فكانت هزيمته التي نعرفها، واحتلال إسرائيل أراضي كان قد حرّرها قبل ربع قرن.
فكان رئيس جمهورية جديد، كان الحزب قد أغلق أبواب إيجاده، ورئيس حكومة، عارضَ توليه المنصب عندما كان اسمه مطروحاً في المداولات المعارِضة له. والجديد الذي طرحه الاثنان، في خطاب أو بيان، كان إلغاء شعار ساد ربع قرن: “وحدة الجيش والشعب والمقاومة”. الاثنان استبدلا شعار هذه “الوحدة” بخطاب “احتكار الدولة للسلاح”، و”لا سلاح خارج سلاح الجيش”، وكل تفرّعاتهما، فسادت همْروجة “الحل الدبلوماسي”. أي أنه لم يعد أمام هزيمة الحزب غير الحل الدبلوماسي، نسعى له مع “المجتمع الدولي”. أول من أطلق هذا “الحل” المبعوث الأميركي البشوش آموس هوكشتاين، من إدارة بايدن السابقة. قال إن “الحل الدبلوماسي هو الطريقة الوحيدة لإنهاء الاشتباكات بين لبنان وإسرائيل”. والرئيسان الجديدان تلقّفاه، وصار مثل خريطة طريقهما: “لا بد من الحل الدبلوماسي بعدما ملّ اللبنانيون الحروب”، “نعمل يوميّاً مع الجهات الدولية على الحل الدبلوماسي”، “الدبلوماسية هي الحل الوحيد”… الكُتاب وخبراء الشاشة والإعلاميون ساروا في أثرهما، فيما حزب الله في هذه الأثناء، رغم هزيمته البائنة، يرفض ذلك، ويعلن عن طريق متكلّميه، وبعبارات مختلفة؛ كربلائية، جيوبوليتيكية، تحليلية، بأنه “لا…! لم يُهزم… إنما انتصر…!”. فتكرار للسجال الأبدي، وتبخيس بالبيئة الموالية له، توبيخها على قلّة رجاحة عقلها، كأن الطوائف الأخرى سليمة. وإعلام لا تنتهي لائحة اتهامه الحزب: مخطئ، انتحاري، مخادع، ضعيف الرؤية… إلخ.
لبنان لا يسير، إنما عالق في الزمن. مجمّد، ينتظر في ليل تطول عتْمته
يحصل هذا كله خلال العام المنصرم. ولم نُفض بعد إلى أية نتيجة. ولبنان لا يسير، إنما عالق في الزمن. مجمّد، ينتظر في ليل تطول عتْمته. ينتظر… لأنه لا يستطيع أن يغير شيئاً في التركيبة التي ازدهرت أيام تحكّم الحزب بلبنان. لا في نظامه الشعبي الطائفي، ولا في منظومة الفساد التي تنهش إرثه.
خذْ آخر الأمثلة: رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان المركزي، ومهندس انهياره المالي، الذي أنقذ الحزب وكل شركائه المضاربين من مشكلاتهم المالية، على حساب أكثر من مليوني لبناني، مقيم ومهاجر؛ الذي أفلسهم، نسّق سرقة أموالهم؛ الذي خرج من سجن “خمس نجوم” بتهمة هي الأقل فداحةً من بين أخرى، ودفع كفالة مالية بملايين الدولارات للخروج منه، لا يعرف أحدٌ كيف أوجدها، هذا الرجل استقبلته إحدى القنوات التلفزيونية المعادية لحزب الله، فأعلن ما أصبح متداولاً بعدما توسّعت دائرة سلاخي الحزب؛ أن الانهيار المالي في زمن حاكميّته تتحمّله “حكومة الثنائي الشيعي والتيار العوني (…) وميشال عون”. أي حزب الله وحليفه الوثيق الشيعي، وحليفه الآخر المسيحي، الذي أتى به إلى القصر الجمهوري.
حسناً. سحب سلاح حزب الله ليس شأناً لبنانيّاً صرفاً. … تفعل إسرائيل كل ما في وسعها لكي لا يُسحب. وقف النار منذ سنة كان مزحة. لم تحترمه إسرائيل يوماً. قتل في أثنائه المئات، مدنيين وأعضاء في الحزب. تحتل شريطاً في الجنوب، تنصُب السور العالي بداخله، كما في الضفة الغربية، وتسلّط نيرانها على القرى الأبعد من حدودها. لا تعطي للبنان ولا حجّة منطقية ليحيّد البيئة المصرّة على الحزب وسلاحه. والأرجح أنه حتى لو تنازل الحزب وسُحِب هذا السلاح، سيبقى لبنان تحت مرمى نيرانها. وستبقى معتدية توسعية. ما ركب في عقلها عن جبورتها لا يردعه إذعان بتسليم السلاح، ولا حتى استسلام، إنما يغذّيه.
وقف النار منذ سنة كان مزحة. لم تحترمه إسرائيل يوماً. قتل في أثنائه المئات، مدنيين وأعضاء في حزب الله
ونموذج سورية أحمد الشرع أبلغ الأمثلة. جردتها إسرائيل من سلاحها، فكان احتلال لمزيد من أراضي الجنوب السوري، واقتحامات عسكرية لقراها الجنوبية، وفي جبل الشيخ، ومحاولات إنشاء بؤر استيطانية. هذا ولم نتكلم عن غزّة، التي تشبه لبنان، وقد يلتحق بها إذا نفّذت إسرائيل تهديداتها باحتلاله كله، لأن لبنان لم “يلتزم” بسحب سلاح الحزب، بعدما عرقلت هذا السحب.
وما يرتكز عليه أعداء حزب الله من “حل دبلوماسي” عن طريق “مجتمع دولي”، أي خطّة ترامب لـ”سحب سلاح حزب الله”، بات معروفاً: مهلة نهاية هذه السنة لتحقيق الغرض، نشر الجيش اللبناني، انسحاب الجيش الإسرائيلي التدريجي من جنوب لبنان، إعادة إعمار لبنان ومساعدة دولية له… إلخ. هذه الخطّة التي أقرّتها الحكومة اللبنانية، لم تلتزم إدارة ترامب نفسها بمراقبة تنفيذها، هي متشددة، وصارمة مع الجهة اللبنانية وحسب. تنتقد الجيش اللبناني لأنه لا “يتقدم” في سحب السلاح. مرة تستعجل كما كان ترامب يستعجل إسرائيل بالقضاء على حماس، ومرة أخرى تستمهل، لا تخشى الحرب الأهلية في حال تخطتها. وعندما يُقال لها إن هذا الجيش تنقصه الهيبة والقدرة على تنفيذ الخطة، تجيب بأنها لن تسلّحه أكثر من ذلك، لأنها تخشى أن يقع هذا السلاح في أيادي حزب الله، ولأنها لا تريد “إشعال حرب أهلية” بين اللبنانيين، ولأن الجيش بنظرها “يتعاون” مع الحزب ميدانياً، ولأن إسرائيل، على كل حال، لن تقبل بهذا التسليح، تضع “فيتو” عليه.
وإذا قارنتَ بين الوضعَين، سوف تلاحظ أن لإيران علاقة مع حزب الله أوثق من علاقة أميركا مع الدولة اللبنانية التي ترغمها على مواعيد سحب السلاح عنه. وهذه من أسباب فشل السحب، ففيما مساعدته الحكومة اللبنانية مشروطة بـ”إصلاحات” يسبقها نزع سلاح وبسط “سلطة الدولة”، تدعم إيران حزب الله من دون شروط. بتمويل منتظم، وتسليح وتدريب واصطفاف أيديولوجي عميق، بل التزام بشري، تجسَّد بهيثم علي طبطبائي، رئيس أركان الحزب وقائد قوة الرضوان فيه، الذي اغتالته إسرائيل أخيراً.
لبنان أمام معضلة مزدوجة. أمام خيارين مستحيلَين. إذا “فاوض”، أو أخذ وقته، في عملية سحب السلاح، أي بالتدرّج أو الإقناع أو انتظار الحل الإيراني، ستكون النتيجة حرب إسرائيل عليه، وإذا خاض حرباً ضد حزب الله، فستكون أيضاً حرباً عليه؛ حرباً أهلية وإسرائيلية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى