
منذ أكثر من عشر سنوات أعيش في ألمانيا، وأعرف كالآخرين من استطلاعات الرأي التي تجريها وسائل الإعلام الرسمية ومراكز البحوث أن نسبة تأييد حزب اليمين وصلت إلى رقمٍ مخيف، أي ما يقارب 28%.
ولكي نستدل على خطورة هذه النسبة، لابدّ أن نعرف أن هؤلاء السياسيين ومؤيديهم موجودون في كل مكان: في الأعمال والوظائف الرسمية، في البرلمان، وفي الشرطة والجيش وجميع قطاعات العمل تقريباً.
ولأن الشعب الألماني يدرك خطورة هذا الوضع، ما زال يحاول بكل الطرق السلمية ووسائل التعبير محاصرة هذا التطرف اليميني.
فلك أن تتخيل عندما يكون المسؤول، مثلاً، عن ملفك في طلب الجنسية من مؤيدي حزب اليمين؟ ما أنا متأكد منه أن هؤلاء يعرقلون ما يستطيعون من مثل هذه الملفات، وربما لا يستطيعون التخريب كثيراً بحكم قوة القانون وقوة الدولة، لكنهم يفعلون ذلك.
ليست حوادث فردية
منذ عدة أشهر، وفي زحمة المواصلات، طلبتُ الجلوس بمقعدٍ فارغٍ بجانب رجلٍ عجوز، ولأني نسيت أن أقول له شكراً لأنه أتاح لي فرصة الجلوس، بدأ بالتنمر عليّ ولكن بطريقةٍ مواربة، مثل قوله: “هل تستطيع التحدث باللغة الألمانية؟” إلى آخره.
للحظاتٍ لم أستوعب ما يحدث، لكن عيني الرجل الوقحتين تجاهي وطريقة حديثه ومحتواها أوحت بذلك.
عشتُ شخصياً حادثةً أخرى، خلال طريقي على الدراجة الهوائية، قمتُ بمخالفة قواعد المرور بشكلٍ جزئي، وسرتُ في الجهة اليسارية. أمامي تماماً توقف عجوزٌ ألمانيٌّ مُصرٌّ على إعاقة متابعتي سيري، صارخاً بي بأعلى صوته بأن هذا طريق كذا وكذا… وتوتره كان يشبه الحالة الجنونية. استوعبته، اعتذرتُ، وشرحتُ اضطراري إلى هذا الغلط الذي يُرتكب في مدينتي في اليوم مئات المرات.
البارحة، وبسبب إصابتي بفيروس كوفيد، وأنا من الأساس لديّ ارتفاع في ضغط الدم، اضطررتُ إلى طلب سيارة الإسعاف. بالكاد كنتُ أتنفس، وانتظرت أكثر من ثلث ساعة لوصولها، وحين وصلت، كان بها ممرضةٌ وممرض. دخلت تلك الممرضة غرفتي وبدأت تسألني حول مرضي وحالتي، لكن العديد من الأسئلة الإضافية التي طرحتها عليّ جعلت حالتي تزداد سوءاً.
لثوانٍ صمتُّ، ثم بدأتُ بالردّ عليها رغم حالتي السيئة، فقلتُ لها: “لماذا أنتِ غاضبة؟ ولماذا تعاملينني هكذا؟” هنا عموماً يخافون من أي شكوى ضدهم، فعدّلت نسبياً لهجتها التنمرية، وتابعت عملها، لكن بمزاجٍ سيئٍ تجاهي.
الشعب الألماني يفكر أولاً بوضعه المالي وبالتضخم الذي يلاحق نفقاته اليومية، وبالوضع الخدمي ودعم النظام الصحي.
هؤلاء من ينتخب حزب اليمين
تقديري الشخصي أن أمثال هؤلاء، أقصد الذين ذكرتهم للتو، هم من ينتخبون حزب البديل ويدعمونه في استطلاعات الرأي. وبالتأكيد هناك نسبة من المهاجرين، للأسف، ممن حصلوا على الجنسية أيضاً يدعمون التطرف وحزبه هذا.
ولكن هذه المؤشرات العامة خطيرة جداً، خاصة أن ألمانيا لها تأثير كبير على عموم الاتحاد الأوروبي، وصعود اليمين ستكون له تبعات خطيرة على كل السكان في هذا البلد.
نعم، هناك حزب متطرف، وتقييمه كمتطرف جاء من تقييم جهاز حماية الدستور، فهؤلاء يريدون إعادة استنساخ النازية لكن بطعمةٍ عصرية، ويعتقدون أنهم هم “حماة ألمانيا”، ويريدون الخروج من الاتحاد الأوروبي، ويحبّون النموذج الترمبي.
يوجد في ألمانيا لعبة سياسية ديمقراطية، ولا أحد يستطيع إلغاء الآخر بشكلٍ تعسفي، والعمل السياسي يحتاج إلى صبرٍ ومتابعةٍ بحكم التزامه بقواعد صارمة. وحتى لو وصل “البديل” يوماً ما إلى الحكم — وهذا ما نعمل على منعه ديمقراطياً — فسيكون مضطراً إلى التعامل مع بقية الأحزاب بحكم توازنات العملية السياسية هنا، وبالتالي ستكون المواجهة الديمقراطية معه طريقاً إجبارياً لإسقاطه.
تغيّر المزاج العام تجاه الهجرة والمهاجرين
كان يكفي أن تحدث عدة حوادث إرهابية من سوريين ينتمون لتنظيم الدولة “داعش” ومشتقاته لكي يتغير المزاج العام الألماني تجاه المهاجرين غير الشرعيين، إضافةً إلى وجود نسبة ليست قليلة من المهاجرين ما زالت تحتال على الضرائب، وتعمل في اقتصاد الظل، وتدّعي المرض عبر تقارير طبية مخادعة، وتحصل على معونات وزارة العمل القادمة من دافعي الضرائب.
وليس فقط بعض المهاجرين يفعلون ذلك، إنما هناك ألمان يقومون بالفعل نفسه أيضاً.
وواقع الحال أن الشعب الألماني يفكر أولاً بوضعه المالي وبالتضخم الذي يلاحق نفقاته اليومية، وبالوضع الخدمي ودعم النظام الصحي.
وهو شعبٌ يخشى الحرب ولا يريدها، ويريد السلام والرفاهية — وهذا حالٌ طبيعي لشعبٍ خاض حربين عالميتين ومات من أبنائه ملايين.
وحالياً، يعيش أكثر من خمسين ألف سوري تمّ تجميد اتخاذ القرار بشأن طلبات لجوئهم بعد هروب بشار الأسد وقدوم السلطة الانتقالية إلى الحكم، ويتجه القرار السياسي باتجاه التعامل الفردي مع كل طلب لجوء، أي لم يعد ممكناً إعطاء قرار الحماية المؤقتة لسوريين جدد.
ما زال هناك من يعتقد أن الشمس تشرق لأجله، وأنّ عرقه الآري هو الأفضل، وذكاءه نادر وجنسه نادر، ولابدّ لعملة المارك أن تعود بدلاً من اليورو، وأنه لابدّ أن يركب المهاجرون مراكب العودة متجهين نحو أوطانهم.
النصف الممتلئ من الكأس
هناك بالتأكيد نسبة تتجاوز النصف من السوريين هنا في ألمانيا قد أثبتوا قدرةً ممتازةً على الاندماج، فتعلموا اللغة وصاروا من دافعي الضرائب، وآلافٌ منهم حصلوا على الجنسية الألمانية.
وهؤلاء يعملون في مختلف قطاعات العمل، وهناك أكثر من 6000 طبيبٍ سوري يعملون في مختلف المشافي والأقسام الصحية، ورقمٌ أكبر من هذا يعمل في قطاع التمريض ورعاية كبار السنّ.
هؤلاء، ومنذ سنوات، بلغوا سنّ الرشد، ولكن قسماً منهم ما زال سلبياً في التعامل مع الوضع السياسي. معظمهم ربما يشارك في العملية الانتخابية، لكن غالبيتهم لا ينتمون لأحزابٍ سياسيةٍ ليكونوا مؤثرين.
وأدعو هؤلاء ليكونوا جزءاً فاعلاً من المشهد السياسي، وألا يكتفوا بالصمت والترقّب.
ويجب أن نتعلم جميعاً هنا، وفي كل مكان، أن كلَّ واحدٍ منا هو قيمةٌ بحدّ ذاته، وعليه أن يتعلم الدفاع عن حقوقه سلمياً حتى النهاية.
هل ستختفي العنصرية يوماً ما؟
لا أعتقد ذلك، فما زال هناك من يعتقد أن الشمس تشرق لأجله، وأنّ عرقه الآري هو الأفضل، وذكاءه نادر وجنسه نادر، ولابدّ لعملة المارك أن تعود بدلاً من اليورو، وأنه لابدّ أن يركب المهاجرون مراكب العودة متجهين نحو أوطانهم.
وفي مقابل هؤلاء، أغلبيةُ الشعب الألماني — أي ما نسبته فوق السبعين في المئة — يعملون بالليل والنهار لمصلحة إنسانيتهم وبلدهم، ولن يسمحوا للنازية مجدداً بالعودة.
أما تلك الممرضة التي عاملتني البارحة بشكلٍ سيئ، فأقول لها ولأمثالها:
هنا بلدي وأحبه مثلك وأكثر، ولكني مؤمنٌ بالدستور الألماني بالتأكيد أكثر منك، خاصة تلك الفقرة التي تنصّ على أن كرامة الإنسان هي الأولى.
المصدر: تلفزيون سوريا