7   أكتوبر نصرٌ للإقليم ولفلسطين و”هزيمة لغزة”

  عدي محمد الضاهر

لم تكن حركة 7 أكتوبر 2023 مجرد مواجهةٍ عسكريةٍ بين فصيلٍ فلسطيني وجيشِ الاحتلال الإسرائيلي، بل كانت زلزالًا جيوسياسيًا أعاد تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط، وكشف عن حقيقة التحولات العميقة التي كانت تتخمر في باطن الإقليم منذ عقدٍ كامل. فما بدأ كعمليةٍ عسكريةٍ مفاجئة، انتهى إلى تحوّلٍ استراتيجي شامل امتدّ أثره من غزة إلى دمشق وطهران، ومن تل أبيب إلى أنقرة والعواصم العربية الكبرى.

وإذا كان المشهد الإنساني المأساوي في غزة قد غطّى على بقية الصورة، فإن القراءة الهادئة تُظهر أن حركة 7 أكتوبر أفادت الإقليم بأسره، لكنها أضرّت بغزة وأهلها. كانت بدايةً لانهيار محورٍ بكامله، وانطلاقةً لمحورٍ جديد، في حين دفعت غزة الثمن الكامل من عمرها ودمها وخرابها.

غزة الخاسر والإقليم الرابح

دفعت غزة ثمنًا باهظًا لمعادلةٍ لم تكن متكافئة منذ البداية. أكثر من 92% من منازل القطاع دُمّر بالكامل، وعشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين، ودمارٌ شامل للبنية التحتية والمجتمع. لكن في المقابل، لم يكن هذا الدمار بلا أثرٍ إقليمي؛ فالحركة، وإن كانت مكلفةً إنسانيًا، إلا أنها كشفت هشاشة مشروع النفوذ الإيراني في المنطقة، وأجبرت الجميع على إعادة النظر في ترتيباتهم الإقليمية.

لقد كانت هزيمةً ميدانية لغزة وحماس، لكنها نصرٌ سياسي واستراتيجي للإقليم. فالمشهد الدولي تغيّر، والمزاج الشعبي في العالم الغربي والعربي تحوّل، والقضية الفلسطينية استعادت حضورها بعد أن كانت غائبةً عن الأولويات الدولية.

صحيحٌ أن إسرائيل حققت تفوقًا عسكريًا ساحقًا عبر سياسة الأرض المحروقة، لكنها في المقابل فقدت مكانتها الأخلاقية والسياسية عالميًا.

السقوط البطيء لمحور إيران

ربما لم يكن المقصود من 7 أكتوبر إسقاط النفوذ الإيراني، لكن النتائج سارت في هذا الاتجاه. فإيران، التي بنت نفوذها الإقليمي على خطاب “المقاومة” ودعم الفصائل المسلحة، وجدت نفسها فجأة أمام اختبارٍ مكشوف. لم تتدخل لإنقاذ غزة، ولم تُحرّك جبهة الجولان أو الجنوب اللبناني كما كانت تُلوّح دائمًا، فسقطت رواية “محور المقاومة” أخلاقيًا تدريجيًا قبل أن تتهاوى سياسيًا.

بل إن تداعيات الحرب أسهمت في إعادة تموضع القوى الإقليمية، وولّدت ضغطًا شعبيًا وسياسيًا على نظام الأسد في سوريا أيضًا، الذي شكّل لعقودٍ ذراعًا رئيسية في المشروع الإيراني. ومع تصاعد الانقسامات الداخلية وتراجع النفوذ الإيراني العسكري والاقتصادي في سوريا والعراق، كان سقوط النظام السوري وتراجع طهران من المنطقة نتيجةً غير مباشرة لحركة 7 أكتوبر. فالحركة، وإن انطلقت من غزة، إلا أنها أطلقت سلسلةَ تفاعلاتٍ غيّرت ملامح الإقليم بأسره، وأتاحت الفرصة السياسية والعسكرية للانقضاض على النظام الدكتاتوري في سوريا، الذي أسهم أيضًا في إطالة أمد معاناة الفلسطينيين من خلال استخدامه الملف الفلسطيني إقليميًا وداخليًا كشماعةٍ لخدمة مصالحه الشخصية في السيطرة الكلية على الحكم بطريقةٍ قمعيةٍ ومتوحشة.

صعود التيار “العربي التركي

في المقابل، برزت قوى جديدة أكثر انسجامًا مع هوية المنطقة وتوازناتها. فالمحور العربي التركي بدأ يتقدّم بهدوءٍ وثبات، مستفيدًا من الفراغ الذي تركه تراجع المحور الإيراني. هذا المحور، الذي يجمع بين العمق العربي والدور التركي الصاعد، أصبح اليوم القوة الأكثر قابليةً لتشكيل نظامٍ إقليميٍّ جديدٍ يوازن بين المصلحة والسيادة، ويعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية ضمن إطارٍ عقلانيٍّ لا يقوم على التبعية ولا على الشعارات.

ومن رحم الدمار في غزة، بدأت ملامح هذا المحور تتشكل، مدعومةً بواقعٍ سياسي جديد في سوريا بعد انكفاء إيران، وبعودة تركيا مع قطر والسعودية إلى موقع القيادة الإقليمية والمناورات المشتركة في الشرق الأوسط.

إسرائيل بين النصر العسكري والخسارة السياسية

صحيحٌ أن إسرائيل حققت تفوقًا عسكريًا ساحقًا عبر سياسة الأرض المحروقة، لكنها في المقابل فقدت مكانتها الأخلاقية والسياسية عالميًا. فلم يسبق أن واجهت إسرائيل هذا القدر من العزلة الشعبية والدبلوماسية منذ نشأتها. صُوِّرت للعالم كدولةٍ معتديةٍ تمارس الإبادة الجماعية، واهتزّت صورتها في الوعي الغربي الذي كان يرى فيها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”.

أما داخليًا، فقد دخلت في أسوأ أزماتها السياسية والاجتماعية منذ قيامها، إذ انقسمت بين تيارٍ متطرفٍ يريد الحسم الكامل، وتيارٍ قَلِقٍ يرى أن الحرب لم تُحقق أمنًا حقيقيًا، بل عمّقت الخوف وأشعلت جبهاتٍ جديدة في الشمال والجنوب.

بهذا المعنى، فإن إسرائيل ربحت معركةً وخسرت الحرب؛ انتصرت عسكريًا من خلال آلة حربٍ ضخمة، لكنها انهزمت في المعنى الحقيقي للمعركة، ولم تستطع أن تُقنع العالم بعدالة ما فعلت، ولا أن تُبرر حجم الدمار والقتل، ولا أن تُحوّل تفوقها العسكري إلى إنجازٍ سياسي دائم.

غزة بعد الحرب

في ظل الواقع الجديد، يبدو أن المرحلة المقبلة ستشهد خضوع قطاع غزة لإدارةٍ دوليةٍ أو عربيةٍ مشتركة، تتولى إعادة الإعمار وضمان الأمن ومنع عودة الفصائل المسلحة إلى الواجهة. خروج حركة حماس من المشهد سيكون تطورًا حتميًا، ليس فقط بفعل الضغط العسكري الإسرائيلي، بل أيضًا بسبب التفاهم الإقليمي والدولي على ضرورة إدارة القطاع.

سيُعاد بناء غزة، ولكن وفق معادلةٍ جديدة تجعلها جزءًا من مشروعٍ إقليميٍّ متوازن، لا ورقة بيد طهران ولا ساحة صراعٍ بالوكالة.

محور إيران، فقد انكسر من الداخل، وتراجع دوره الداعم والمغذي للصراعات في سوريا ولبنان، وبحجمٍ أقل في العراق، في حين تتهيأ أنقرة والعواصم العربية لاستلام زمام المبادرة في شرقٍ أوسط جديدٍ أكثر توازنًا وواقعية.

من انتصر حقًا؟

من المفارقات الكبرى أن الفلسطينيين كقضيةٍ ربحوا عالميًا رغم أن غزة خسرت ماديًا. فالقضية الفلسطينية عادت إلى قلب الوعي العالمي بعد سنواتٍ من التجاهل. تصاعدت المظاهرات في الغرب، وتغيّر الخطاب الإعلامي والسياسي في أوروبا وأميركا، وأصبحت فلسطين عنوانًا للعدالة الإنسانية لا مجرد ملفٍّ سياسي قديم.

لكن هذه المكاسب السياسية لا تُلغي حقيقة أن القطاع نفسه دُمّر بالكامل، وأن حماس خاضت معركةً لم تستطع إدارتها إلى النهاية.

بالإمكان أن نقول: لقد انتصرت فلسطين كرمز، وانهزمت غزة كجغرافيا. ولكن في المحصلة، لم تخرج أي جهةٍ بانتصارٍ مطلق. فإسرائيل، رغم قوتها العسكرية، فقدت شرعيتها المعنوية وعلاقتها الطبيعية بالإقليم، إذ لا يمكن لدولةٍ معتديةٍ ليست من نسيج المنطقة أن تصبح جزءًا منها. وهذا ما يمكن أن يعطي تصورًا بأنها ستبقى إسرائيل معزولةً شعبيًا، حتى لو طبّعت بعض الحكومات علاقاتها بها.

أما محور إيران، فقد انكسر من الداخل، وتراجع دوره الداعم والمغذي للصراعات في سوريا ولبنان، وبحجمٍ أقل في العراق، في حين تتهيأ أنقرة والعواصم العربية لاستلام زمام المبادرة في شرقٍ أوسط جديدٍ أكثر توازنًا وواقعية.

في ميزان السياسة والعسكر والاستراتيجية

يمكن تلخيص المشهد كالتالي:

  • سياسيًا: ربح الفلسطينيون حصةً قويةً في الرأي العام العالمي، وخسرت إسرائيل التعاطف الدولي.
  • عسكريًا: انهزمت حماس وغزة ميدانيًا، وحققت إسرائيل تفوقًا بالنار، وسيطرت بفعل القوة على مناطق أخرى حدودية في سوريا ولبنان بحجة حماية أمنها من المجموعات المسلحة.
  • استراتيجيًا: خسر المحور الإيراني نفوذه وسقط سياسيًا وعسكريًا، وربح التيار العربي التركي زمام المبادرة، في حين سقط نظام الأسد كإحدى النتائج غير المباشرة للحركة.

ويبقى السؤال مفتوحًا:

هل كانت 7 أكتوبر لحظة سقوطٍ أم بدايةَ نهضة؟

ربما تكون الاثنين معًا: هزيمةً محلية، ونصرًا إقليميًا، وبدايةً لشرقٍ أوسط بعنوان “غزة”.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى