معركة الجوع ضدّ قيس سعيّد

بشير البكر

لم يبقَ بيد التونسيين سوى سلاح الجوع يُشهرونه ضدّ ديكتاتورية الرئيس قيس سعيّد. معركة باللحم الحيّ بدأتها شخصيات سياسية في طريقها إلى أن تتسع وتشمل فئات أخرى، بدءاً من عائلات الأشخاص المعنيين، ومن ثمّ القوى الديمقراطية من أحزاب سياسية ونقابات وحقوقيين. وانطلقت الشرارة منذ أسابيع من إعلان جوهر بن مبارك، أحد مؤسّسي جبهة الخلاص الوطني، تحالف المعارضة الرئيس في تونس، إضراباً عن الطعام والماء والدواء، احتجاجاً على ظروف اعتقاله منذ فبراير/ شباط 2023، بعد فشل المساعي كلّها إلى إسقاط الحكم الذي صدر ضدّه في إبريل/ نيسان، بالسجن 18 عاماً بتهمة “التآمر ضدّ أمن الدولة” و”الانتماء إلى جماعة إرهابية”، في محاكمة انتقدتها منظّمات حقوق الإنسان.
التحق بالإضراب المفتوح عن الطعام معارضون تونسيون بارزون، بينهم رئيس حركة النهضة راشد الغنّوشي، الذي زجّه سعيّد في السجن وحكم عليه في يوليو/ تموز الماضي بـ 14 عاماً في القضية التي جرت فيها محاكمة 21 شخصاً، في خطوة اعتبرتها أوساط حقوق الإنسان المحلّية والعالمية تظهر استخدام سعيّد القضاء لترسيخ حكم استبدادي، بينما رفض الغنّوشي المشاركة فيها احتجاجا على غياب أدنى شروط المحاكمة العادلة، وقالت هيئة الدفاع عنه إنه “لم يرتكب أيّاً من الأفعال المنسوبة إليه، وأن كل ما اتّهم به تأسّس على وشاية كاذبة… وادّعاءات باطلة ومتضاربة”. والمعارض الثالث الذي دخل الإضراب عن الطعام الأمين العام للحزب الجمهوري (المعارض) عصام الشابي، الذي يقضي حكما بالسجن مدّة 18 عاماً بعد اتهامه بالتآمر على أمن الدولة، الداخلي والخارجي، وتكوين تجمّع إرهابي له علاقة بالجرائم الإرهابية والانضمام إليه، حسب نصّ الحكم.
تونس تجربة فريدة في العالم العربي، هبّت منها رياح “الربيع العربي” في نهاية عام 2010، وأطاحت نظام الرئيس زين العابدين بن علي القمعي، وخاضت تجربةً ديمقراطيةً تعدّديةً، قادت إلى كتابة دستور جديد، وقبل ذلك شهدت نهضةً سياسيةً وثقافية وحقوقية بعد الاستقلال بالرغم من حكم الحزب الواحد، وقد أرادها الزعيم الحبيب بورقيبة أن تلتحق بالأمم المتطوّرة، ولذا اتخذ قراراً قاطعاً بإبعاد الجيش والأمن عن السياسة، وهذا هو السرّ في نجاح الثورة ضدّ نظام بن علي، إذ رفض الجيش التدخّل لصالح الرئيس، وحمى التظاهرات السلمية، ومكّنها من الوصول إلى هدفها من دون إراقة دماء. وقد التقط سعيّد هذه الرسالة واستغلّ العلاقة ببعض ضبّاط المؤسّسة العسكرية ذوي الارتباطات الدولية والإقليمية للانقلاب على المسار الديمقراطي في يوليو/ تموز 2021، عندما حلّ البرلمان وبدأ الحكم بالمراسيم، ثمّ حلّ المجلس الأعلى للقضاء المستقل، وأقال عشرات القضاة، وبذلك ألغى المكتسبات التي حققتها ثورة الياسمين، وشرع يعمل على تقويض التراث الديمقراطي الذي راكمته تونس نصف قرن من نضال الحركة السياسية والنقابية والحقوقية. ومنذ ذلك الحين، سار في اتجاه تصعيدي مفتوح ضدّ كل من يشكل خطراً على نظامه، وتحوّل هذا النهج حرباً مع المجتمع التونسي ككل، وليس مع قواه السياسية وأحزابه ونقاباته وحسب.
يحظى نهج سعيّد التدميري بدعم إقليمي، وروسي وإيراني، ومن بعض الدول الأوروبية مثل إيطاليا. وما كان لنظامه، المعزول والمنبوذ داخلياً، أن يستمرّ لولا المساعدات الأمنية والمادّية، من هذه الأطراف على اختلاف مصالحها. ونتيجة هذه التشابكات، خسرت تونس استقلالية قرارها، وفقدت القدرة على لعب أيّ دور عربي أو دولي، كما حصل في فترات سابقة، وباتت تعاني من تردٍّ اقتصادي، عكس نفسه في المظاهرات الحاشدة التي شهدتها محافظة قابس الساحلية في الآونة الماضية بسبب الملفّ البيئي، الذي تحوّل حدثاً سياسياً بامتياز، وهو مرشّح للانفجار من جديد. وربّما تحول شرارةً تشعل السهل.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى