
نرحّب اليوم بالأديب والكاتب الأستاذ عبد العزيز آل زايد في هذه الحوارية الخاصة، حيث نقترب من تجربته الروحية والإنسانية التي جمعها في كتابه الجديد الحنين إلى مكة، الصادر عن دار صاد الجزائرية. في هذا الكتاب، يدوّن الكاتب خلاصة رحلته الممتدة عبر إحدى عشرة حجة، بسطور تنبض بالشوق وتفيض بالذكريات الممزوجة بالعبرة والدهشة. أهلاً وسهلاً بك أستاذ عبدالعزيز، ونبدأ معك هذا الحوار.
☘️☘️☘️
س١: كيف وُلدت فكرة هذا الكتاب، ومتى شعرت أن الحنين إلى مكة يستحق أن يُكتب، وما هي شرارة الانبثاق؟
ج١: في البداية كانت لنا مذكرة نسجّل فيها بعض السطور، ولكن مع توالي الأيام تلاشت عادة التسجيل، ولم يخطر في بالي أن أكتب كتابًا عن رحلات الحج رغم توالي السفرات، حتى طالعت كتبًا ممّن سجّل تجربته في ديار الحجاز. هنا وُلدت الفكرة، حيث كانت لدي تجربة تستحق أن تُروى وتُقيّد، ولأسباب عديدة اقتصرت على إخراج الكتاب بهذه الكيفية التي خرجت باسم سيرة روائية، حيث كنت بطل الأحداث وعمودها الفقري. ربما هذه هي الشرارة، لكنني أؤمن أنّ الله إذا أراد شيئًا مهّد له سُبله وسهّل إليه طريقه، فكان الحنين إلى مكة حجًّا على قرطاس في موسم تحجّ فيه الناس إلى الديار المقدسة.
س٢: ما هي العناصر الفريدة التي تميز بها كتابك عن غيره من الكتب في أدب الرحلات الدينية؟
ج٢: أولًا: هل كتابي مميز؟ في اعتقادي نعم هو كذلك. لماذا؟ لأنه تجربة إنسان عاش في الحج أحد عشر عامًا، ومن يحجّ يتلوّن بألوان الحج، فكيف إذا كان مدمنًا عليه؟ هذا الكتاب حكاية رحلة وسيرة ذاتية تسرد بأسلوب ماتع رشيق، ينقل تجربة لمن لم يحج، وتذكرة لمن حج. هذا الكتاب مسّ من الشوق، لا أتعجب إن هفا قلب قارئه إلى تلك الديار. الكاتب روائي حصد جائزة الإبداع في الرواية، لذا سيلمس القارئ ريشة روائي تتنفس بين السطور، وسيعيش تجربة حقيقية كأنه يسير مع الحجاج. سيلمس القارئ حنين متيّم وتشوق مشتاق، ثم هناك نفس إيماني روحي سيتذوّقه القارئ كأنه لتوّه عاد من قافلة حج. مغامرات وحكايات قُيّدت بين دفتي الكتاب، سيختمها القارئ ويشتاق لرحلة من ذات المذاق.
س٣: لو خُيّرت أن تهدي هذا الكتاب لشخص واحد في التاريخ، لمن سيكون؟ ولماذا؟
ج٣: ليس من عوائدي تأطير الإهداءات لأشخاص محددين إلا نادرًا، ولو ارتأيتُ تخيير الإهداء لشخص واحد لاخترتُ سيدنا إبراهيم (عليه السلام) لأنه سيّد الحجاج، وما أفعال الحج إلا جزء من سيرته المباركة. إبراهيم (عليه السلام) هو الرمز الأكبر لرحلة الحج، وهو أمير الحجاج وقائدهم، وينبغي لكل حاج أن يقرأ سيرته ويتحلّى بأخلاقه، لا في أفعال الحج فقط، بل في سائر سيرته وحياته. ولن يخيب من كان له إبراهيم قدوة وأسوة.
س٤: ما اللحظة الأكثر حضورًا في قلبك، والتي كلما قرأت الكتاب عدت تعيشها بذات الوجد؟
ج٤: كل أجزاء الحج كتلة من نور، ولكل لقطة شعاع؛ فلبس الإحرام له معنى، التلبية لها جرس، السير إلى مكة له مذاق، مشاهدة الكعبة لها شوق، ماء زمزم له طَعم، المناجاة فوق جبل الرحمة في عرفات لها وجد. هي سيمفونية متكاملة، كل لقطة لها وهج يعرفها المدمن، حتى المبيت في مزدلفة والسير إلى منى. الحج مدرسة متكاملة، في كل عام هناك لقطات، وتختلف تلك اللقطات باختلاف المواسم، وسيلمس القارئ ذلك الوجد في ثنايا السطور. فمن يحجّ تلمع في ذهنه لقطة ما، وبعد العودة للحج ستلمع أخرى، وهكذا تتلوّن الأنوار من عام لآخر.
س٥: ما أبرز تحوّلاتك الروحية خلال سنوات حجك؟
ج٥: أنا أعتقد أنّ الإنسان يتشكّل ويتحوّل من عام لآخر، قد لا نشهد اختلافًا كثيرًا في المظهر، لكن في العمق والجوهر هناك اختلافات كبيرة يمر بها الإنسان. فهل للحج أثر في التحوّلات الروحية؟ بلا شك. هناك نماء روحي كبير؛ اقترب من حاج لتوّه عاد من حجّه، ستُدرك أنّ في روحه طُهرًا جديدًا، وتألقًا خاصًا، ونورًا داخليًا تُدركه الأرواح الباصرة. ففي كل عام تزداد تلك الإضافات النورانية في قلب كل من يحجّ، لهذا يحرص البعض أن لا يقطع سلسلة الإدمان، فهو يُدرك قبل غيره الآثار والبركات التي قطفها من أيام الحج، لهذا يعود ويعود. إنّ أبرز تحوّل في الحاج هو الطهر والنقاء، سلامة الصدر والتعلّق بالخالق الكريم. من تعلّق بأستار الكعبة لا يعود خالي الوفاض، ومن تكحّل بأنوار الكعبة سيزداد بهاءً. قراءة القرآن، المناجاة، الطواف، الصلاة، المناسك، كلها مفاتيح تساهم في ذلك التحوّل الروحي الكبير. بلا ريب هناك فرق بين من حجّ ومن لم يحجّ، لهذا من أراد التألق الروحي فليذهب للحج وليختبر آثاره عليه ليدرك القيمة.
س٦: كيف وازنت بين الواقع والخيال في تقديم تجربة الحج؟
ج٦: من الصعب أن نحفظ جميع لقطات رحلة الحج، ولهذا وعلى الغلاف سطّرت عبارة: “ألبومات ما علِق في الذاكرة”. الذاكرة تخون، ومن عادة البشر النسيان. لهذا بعض من كتب عن الحج كان يسجّل سيرته بالكتابة. ومن الطريف أنّ بعضهم سجّل كل شيء، لكن الله قدّر أن تُسرق هذه الكتابات كما حدث للشيخ الطنطاوي (عليه الرحمة). فكيف نوازن بين الواقع والخيال؟ باختصار: نحن نعتمد السرد الواقعي، وما غاب عن الذاكرة أكملنا فجواته ببعض الخيال المقبول الذي لا يخدش المصداقية. وهنا دعوة لكل من يريد كتابة سيرته أن يعجّل قبل ورود النسيان، وقبل أن تتبخّر الذكريات، فإنّ للأيام غوائل، فاستبق قبل أن تُستبق.
س٧: ما هي أبرز جوانب “التسلية والفائدة” في الكتاب؟ وكيف نقلت للقارئ شوقك إلى مكة؟
ج٧: هذا الكتاب سيرة روائية، ومن طبيعة السرد الروائي أن يجمع بين المتعة والتسلية، وبما أنها عن الحج فلا ريب أن للكتاب فوائد. لقد طعّمنا الكتاب ببعض المعلومات القيّمة ليخرج القارئ بقبسات معلوماتية عن مكة وعن الحج، فالكتاب رفيق مناسب للحاج والمعتمر، لكونه يُسلي ويُضيف بطريقة قصصية مؤنسة. فهل تعمّدتُ تشويق القراء لمكة؟ عنوان الكتاب يرتكز على كلمة (الحنين)، وهي كلمة فاضحة للشوق الكبير الذي يعتمل، وحتمًا سينجرف القارئ ويتأثر من كلمات هذا المشتاق. إنني أنادي على أمي كلما رأيت الكعبة وأقول لها في وجد: “تعالي يا أمّاه فالكعبة الآن أمامي”. كيف لا يشتاق من وقع في لغم الاشتياق؟ إنّ الاشتياق إذا زاد ألهب؛ فليحذر من ينوي قراءة الكتاب إن لم يقطع تذكرة إلى مكة.