سقوط دعاية “الأكثر أخلاقية” في “سدي تيمان”

جورج كعدي

مؤكّد أنّ شريط الفيديو الذي سرّبته المدّعية العسكرية الإسرائيلية، يفعات تومر يروشالمي، عن اغتصاب أسير فلسطيني في معتقل سدي تيمان أسقط إلى الأبد خرافة “الجيش الأكثر أخلاقية” في الكيان الصهيونيّ المنحرف، الذي قام أصلاً على اغتصاب الأرض، فسقطت معه أيضاً “الهسبارا”؛ الإدارة الصهيونية للدعاية والتغطية على المجازر، عاجزةً عن تغطية خداعها ونفاقها في حالة مماثلة انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي كلّها، مثلما عجزت من قبل عن التغطية على أفعال الإبادة الوحشية في غزّة، فالحقيقة حين تظهر وتنتشر لا توقفها تحريفات وأضاليل. سبق السيف العذل، وفقد الكذب فعله وتأثيره. كشفت “إسرائيل” للعالم أجمع وجهها الحقيقي المجرم والقبيح، ولا شيء بعد اليوم يبدّل الصورة أو يعدّلها أو يحسّن فيها. السقوط الإنساني والأخلاقي حصل وقُضي الأمر.
الأفظع ممّا حصل في “سدي تيمان”، المتفوّق بوحشيته على معتقل غوانتانامو الأميركي سيّئ الذكر أيضاً، ما تبع الشريط المُسرَّب حول تناوب جنود من المعتقل على اغتصاب الأسير الفلسطيني بوحشية يندى لها جبين الإنسانية، فاستقبالهم من أهالي الجنود المتهمين بفعل الاغتصاب ونشطاء من اليمين، وحتى أعضاء الكنيست، بالتصفيق الحار خلال مثولهم أمام المحكمة العليا في القدس المحتلّة، هاتفين لهم “نحن نحبّكم” (!)، وماذا يمكن أن نقول عن مجتمع يصفّق لمغتصبي أسير؟ هل يمكن قول شيء أم يكفي المشهد وما يُفصِح عنه؟…. يستشهد كاتب هذه السطور بالصحافي الإسرائيلي الاستثنائي النُبل والشجاعة، جدعون ليفي، الذي نعت المجتمع الإسرائيلي بأنه مريض. تلك هي الحقيقة الأعمق التي لا تحتمل شكّاً أو تأويلاً. عوض الصمت والخجل وتهيّب الموقف، يصفّق المجتمع الصهيونيّ لقتلته ومغتصبيه. أين، ومتى، حدث مثل ذلك عبر التاريخ؟
أمر آخر في القضية لا يقلّ فظاعةً، أنّ الغضب الذي أبداه المسؤولون الصهاينة، في مقدمتهم السفّاح بنيامين نتنياهو، كان منصبّاً على نتيجة الفعل المشين، وليس على فعل الاغتصاب نفسه، أي على تسريب المدّعية العسكرية، وعلى “الإساءة” التي لحقت بسمعة الكيان وتعريض الجنود المُرتكِبين لخطر الملاحقة الدولية. لا استنكارَ ولا شجبَ للفعل، ولا خجلَ به، بل خوف على صورة “إسرائيل” في الخارج وسمعتها، وهو في أيّ حال قلق في محلّه، لأن هاتَيْن؛ الصورة والسمعة، تمزّقتا شرَّ ممزَّقٍ ويستحيل ترميمهما.
“الصمود” في المفهوم الإسرائيلي هو كلمة السرّ لـ”الإفلات من العقاب”، ويجب أن يبقى الكيان “صامداً” على الصعيد الدولي
بالنسبة إلى كيان الإبادة، يجب أن تستمرّ حالة الإفلات من العقاب القانونيّ الدولي تاريخياً. اعتاد على ذلك بفضل الحماية الأميركية والغربية التي تشكّل مظلّةً له وتقيه من المحاسبة. ولذلك أقلقته حادثة “سدي تيمان” التي لا تُشكِّل له أيَّ حرجٍ أخلاقي، بل هي مجرّد “إزعاج” إداري وإجرائي يتعلّق بقدرة “إسرائيل” القانونية والدبلوماسية على الصمود دولياً، وحماية أفراد الجيش الإسرائيلي من الأخطار القانونية حول العالم، إذ سيواجه الكيان صعوبةً في الدفاع عن جنوده وقادته في الخارج. و”الصمود” في المفهوم الإسرائيلي هو كلمة السرّ لـ”الإفلات من العقاب”، ويجب أن يبقى الكيان “صامداً” على الصعيد الدولي. إلّا أن الأمور خرجت عن السيطرة داخل كيان الإبادة والانحراف. إذ كانت اللجنة الدولية المستقلّة للتحقيق في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، التابعة للأمم المتحدة، قد أشارت صراحةً في تقريرها عام 2023 إلى “التزايد الحادّ في العنف الجنسي، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، الذي يرتكبه أفراد قوات الأمن الإسرائيلية، وغيره من أشكال العنف الجنسي”. ويخلص التقرير إلى استنتاج “أن إسرائيل تستخدم العنف الجنسي والجنساني بشكل متزايد أسلوبَ حربٍ لزعزعة استقرار الشعب الفلسطيني والهيمنة عليه وقمعه وتدميره. وقد وثّقت اللجنة نمطاً من العنف الجنسي، بما في ذلك حالات اغتصاب وأشكال أخرى من هذا العنف، وتعذيب، وأعمال لاإنسانية أخرى ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية”.
حوادث التعذيب الجنسي ليست فعلاً استثنائياً، فقوات الاحتلال الإسرائيليّ هي بالفعل مرجلٌ متقيّحٌ للقتلة المتسلسلين، الساديين والمنحرفين جنسيّاً
بلغت الجنسانية المنحرفة في الكيان الصهيوني مبلغاً خطيراً، فثمّة دعوات إلى “تشريع” اغتصاب الأسرى الفلسطينيين “قانونياً” (!)، ومنذ زمن بعيد تنتشر الإباحية الجنسية حتى داخل الجيش الإسرائيلي نفسه، ليضحي من باب “الواجب العسكري” ترفيه المجنّدات الإسرائيليات عن الجنود “من أجل اللياقة البدنية في الحرب”. نحن إذن أمام مجتمع إباحيّ، شاذّ بكلّ معنى الكلمة، لا يخضع لأيّ قيم أو أخلاق إنسانية متعارف عليها بين البشر. حوادث التعذيب الجنسي ليست فعلاً استثنائياً، فقوات الاحتلال الإسرائيليّ هي بالفعل مرجلٌ متقيّحٌ للقتلة المتسلسلين، الساديين والمنحرفين جنسيّاً، الذين يخدمون في جميع فروع الجيش، الذي أصبح وكراً للدعارة والإباحية، فيما هو يتباهى زوراً وبهتاناً بأنه “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم”.
مجتمع سدوم وعمورة الحديث هذا، لو عدنا إلى الرواية التوراتية نفسها، لا بدّ من أن يواجه منطقياً مصير سائر الأمم والمجتمعات المنحطّة في التاريخ، “وإنّما الأمم الأخلاق ما بقيت/ فإن هُم ذهبت أخلاقهم ذهبوا”… قال أمير الشعراء أحمد شوقي. انحطاط هذا الكيان الأخلاقيّ سيودي به حتماً، فالباطل لا يدوم، والمدعوّة “إسرائيل” نموذج للباطل.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى