قراءة ونقد لكتاب: ثورات وخيبات. ٣/٣    في التغيير الذي لم يكتمل.

أحمد العربي

سادسا: الثورة السورية.

ما كتبه عبد الإله بلقزيز عن الربيع السوري في الكتاب (نصوصه) قد تأخر أكثر من شهرين بعد بداية الحراك الشعبي في ١٥/ ٣/ ٢٠١١م. حيث كان مواكبا لبقية الثورات بشكل شبه يومي. وهذا مؤشر سنقف عنده لاحقا.؟!!.

ثم إن الكاتب لم يدخل في عمق الواقع والسلطة السورية تمهيدا لمعرفة ما يحصل وليفهم ويقرأ بشكل صحيح. هذا الصمت عن واقع النظام الذي كان عمره عشية الربيع السوري يزيد عن اربعة عقود. حكم الأب حافظ الأسد سورية ثلاثين سنة وابنه بشار بعده احدى عشر سنة عشية الثورة. وهذا مؤشر آخر.؟!!.

أما عندما تحدث عن حراك الشباب والشعب السوري المطالب بالإصلاحات اولا ثم بإسقاط النظام، فقد كان تركيزه على الحقوق المشروعة للمتظاهرين ( ولو على استحياء)، وعلى استحالة تحقيق المطالب القصوى للشعب السوري بإسقاط النظام وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية كما طالب بها الشباب الثائر. وبالتالي كانت نصيحته أن يدخل النظام والثوار من اصحاب الحراك ومعهم المعارضة بحوار يحصل كل طرف على بعض حقوقه. وأن تدخل سورية في بداية التحول الديمقراطي. ولم يوضح لنا – إلا بتورية شديدة – من وقف في وجه هكذا حل يحمي الوطن والشعب من المأساة التي عاشها الشعب السوري؟!!. و ظهرت ملامحها في السنة الاولى للثورة. واستمر بكل نصوصه يصر على هذا التوجه.

لذلك نرى أن الثورة السورية لم تأخذ حقها من التنوير والتعريف وإيضاح الموقف المطلوب منها اتجاهها واتجاه النظام السوري. وهذا ما لا يقبل من باحث جاد ومتمكن ومطّلع من وزن عبد الإله بلقزيز.

إذا ما سبب هذا الموقف من الكاتب ؟!. وما هي قصة الثورة السورية و مآلها للآن. ؟.

سنحاول الاجابة بتركيز شديد لتكتمل صورة الثورات العربية التي كان لها مآلات مختلفة.

اولا: الظروف المجتمعية والسياسية للشعب السوري.

 إن ظروف حياة الشعب السوري كانت تمثل واقعا نموذجيا لقيام الثورة في سورية، حيث المظلومية تطال اغلب الشعب وعلى كل المستويات. حيث كان حزب البعث وبعض الأحزاب (الجبهة الوطنية..)الانتهازية المنقطعة الصلة مع الواقع والشعب يمثل السلطة الحاكمة في سورية، والحزب نفسه كان واجهة سلطة تبدأ من رأس النظام حافظ الأسد ثم ابنه بشار عبر عقود اربعة، هذه السلطة المتمثلة بعصبة عسكرية امنية اغلبها من هوية طائفية علوية، تمتد في شرايين المجتمع على كل مستوياته، تمتص خيرات البلاد وتمنع اي صوت معارض بالظهور، تعتقل وتقتل وتسجن دون أي رادع. نظام في سجلّه مجازر راح ضحيتها عشرات الآلاف من الشعب السوري منذ مجازر الثمانينات إلى ما قبل الثورة السورية. نظام وضع الشعب السوري في مملكة القمع والخوف والفاقة. لا معارضة وازنة في سورية، هناك أفراد من بقايا تنظيمات اغلبهم كبار في السن ومعتقلين سابقين. أخذ الشعب السوري قرارا بالصمت للحفاظ على الحياة، والبعض غادر الى دول الخليج والعالم بحثا عن خلاص اقتصادي فردي يحسن من خلاله ظروف حياته.

هذه سورية سياسياً ومجتمعياً عشية ثورتها.

ثانيا: الدور الخارجي للنظام السوري.

اعتمد النظام السوري بقيادة حافظ الاسد الاب الذي وصل للحكم بانقلاب على رفاقه في الحزب وفي اللجنة العسكرية عام ١٩٧٠م، أودع رفيق طريقه صلاح جديد في السجن لما قبل موته بالسرطان بقليل. كان وزيرا للدفاع عندما حصلت هزيمة حزيران عام ١٩٦٧م، حاول من خلال حرب ١٩٧٣م بالتوافق مع السادات على رد اعتباره وطوّب نفسه قائد التحرير، رغم انه لم ينتصر ولم يحرر شيء، بل خسرت اراضي جديدة ووصلت القوات الاسرائيلية الى سعسع على بعد ٤٠ كم من دمشق، لكن مفاوضات فك الاشتباك مع كيسنجر وزير خارجية أمريكا ثبّت وقف إطلاق النار مع اسرائيل وأُعطي مدينة القنيطرة ليقف بها محررا ؟!!. ويرفع العلم السوري فوق انقاضها.

 منذ ذلك الوقت للآن بعد مضي أقل من خمسين سنة التزم نظام الاسد الاب والابن في عدم الاعتداء على اسرائيل او القيام بأي عمل عسكري لتحرير الجولان. قام الأسد الأب في أواخر حياته بإجراء مفاوضات مع (إسرائيل) برعاية امريكية واستمر ابنه بعده ولم تثمر عن شيء من أجل استعادة الجولان. والواقع أنه تركها مبررا لتسميته  وحلفائه إيران وحزب الله، نظام قوى صمود ومقاومة، والواقع أنهم لم يفعلوا شيء من اجل استعادة الجولان، واستمر النظام يستثمر حربه في ١٩٧٣م وخسارته الجولان ليحصل على احقية الدعم من دول الخليج، بكونه حارس الحدود من التهديد الاسرائيلي. مليارات الدولارات التي حصل عليها النظام سنويا منذ حرب ١٩٦٧م وزادت بعد حرب ١٩٧٣م. واستمر النظام يبيع أدواره في المحيط الإقليمي اتجاه قضية فلسطين ولبنان، حيث دخل الى لبنان عام ١٩٧٥م تحت دعوى إيقاف الصراع بين الفلسطينيين والحكومة اللبنانية. فصادر دور الدولة اللبنانية واصبح محتلا واقعيا لها، انهى التواجد الفدائي بالتناغم مع الامريكان والإسرائيليين وطردت منظمة التحرير الفلسطينية والفدائيين الى تونس عام ١٩٨١م وبعدها عام ١٩٨٣م، دون عودة، وانهيت القوى الوطنية اللبنانية، واغتال النظام كمال جنبلاط القائد الوطني، واخضع القوى العسكرية المسيحية، وبنى بالتوافق مع إيران مليشيا حزب الله الشيعية في لبنان، تحت ادعاء محاربة (اسرائيل)، وحصل الحزب على شرعية الوجود والهيمنة في لبنان من السلطة السورية ثم من قوتهم على الأرض وأصبحوا اليد الضاربة للنظام وإيران في لبنان. وبقي لبنان اسير الاحتلال السوري حتى اغتال النظام رفيق الحريري رئيس وزرائه، وخرج النظام عسكريا بعد ذلك وفق قرار دولي، لكنه بقي حاضرا من خلال حزب الله الذي صادر الدولة وفرض نفسه برعاية سورية ايرانية القوة الوحيدة في لبنان. حزب الله نفسه الذي يستخدمه النظام وإيران لقتال الشعب السوري مع ميليشيات عراقية وايرانية وافغانية ذات صبغة طائفية شيعية. وذلك بعد قيام الثورة السورية وعجز النظام عن الدفاع عن وجوده امام الشعب السوري والثوار.

كما نرصد دور حافظ الاسد في علاقته العدائية مع العراق، كان حليفا لايران في الحرب العراقية الايرانية، ودعم المعارضة العراقية التي دخلت بعد ذلك مع الاحتلال الأمريكي لتكون الحاكم الجديد للعراق.

أما علاقة النظام السوري وإيران فقد حصل بينهما ارتباط بعد ثورة الخميني جعلت التوافق بينهم استراتيجي، بحيث اعتبرت إيران النظام امتدادا لها، ودعموا وجود حزب الله ودوره، وكان لإيران دور كبير في دعم وجود النظام وحمايته بدء من ثورة ٢٠١١م للآن بالمال والسلاح والمقاتلين.

أما النظام والامريكان فهو يعادي لفظيا وينسق واقعيا معهم. في لبنان واتجاه القضية الفلسطينية وحول الجولان والانضمام للتحالف الدولي لتحرير الكويت . ولا ننسى دور النظام السوري في موضوع مساعدة أمريكا في مطاردة القاعدة وتقديم بعض عناصرهم وقادتهم للامريكان.

أما دول الخليج فقد كان هناك اتفاق تبادل أدوار، النظام يحارب (او هكذا يدّعي) والخليج يدفع، وهناك تبادل مصالح دائم للآن.

بعد كل هذا التركيز لدور النظام السوري الخارجي، كان التوافق الدولي حول وجوده ودوره متوافق معه وعليه دائما. (إسرائيل) وأمريكا والغرب ودول الخليج وايران كلهم مع وجود النظام واستمراره.

اما روسيا فهي تعتبر سورية حليف لها منذ أيام الاتحاد السوفييتي وقد وجدت لها دورا مصلحيا في سورية بعد الثورة، حيث كُلفت من أمريكا (وإسرائيل) بدعم النظام السوري، حيث يدفع التكلفة المالية النظام وإيران وبعض دول الخليج  ثمنا للسلاح الذي يقتل به الشعب السوري ويدمر سورية.

لكل ذلك كان الرد الاولي بعد سقوط الانظمة في تونس ومصر والخوف من الديمقراطية، وأن يهيمن التيار الاسلامي على دول الربيع العربي القادمة، وخوفا من احتمالات تغير وضرر في مصالح إسرائيل والغرب وحلفائهم في المنطقة، لذلك قررت هذه القوى الدولية أن ترتد على ثورات الربيع العربي، وتحاربها بكل السبل، حيث ساهمت في إفشال ثورة مصر واليمن وليبيا، وقررت دعم النظام السوري ليستمر بالحكم ولو على جزء من سورية ولو بقتل مليون من شعبها وتشريد ١٢ مليون وتدمير نصف بناها التحتية واخضاعها لاحتلالات امريكية وايرانية و روسية مع تواجد تركي على جزء من الحدود السورية، وتقاسم الأراضي السورية بين هذه الدول.

النظام مازال مدعيا القوة والمقاومة ومتمسكا بالسلطة على ارض مستباحة وما تبقى من شعب يكاد يموت جوعا.

هكذا هو المشهد السوري الآن .

ثالثا: مأزق اليسار العربي مع الثورة السورية.

لقد كان للنظام السوري منذ عهد حافظ الأسد وبعده ابنه بشار دورا يدّعيه انه راعي للقوى القومية واليسارية العربية، وهذا الدور شاركه به عراق صدام حسين وليبيا القذافي ما قبل أن يسقطا كنظامين تباعا. كان يرعى النظام السوري مصلحيا بعد ندوات وملتقيات المؤتمر القومي العربي وغيره من المناشط، و يدعم ماديا بعض الناشطين من اغلب الدول العربية، وكان النظام السوري مع إيران وحزب الله اللبناني يغطوا انفسهم بانهم هم دول المقاومة والصمود خاصة بعد أن حارب حزب الله اسرائيل في خاصة عام ٢٠٠٦م، وسحبت (إسرائيل) دعمها عن ميليشيا لحد وانسحبت من الأراضي اللبنانية، وطوب حزب الله نفسه الوحيد الذي يحارب (اسرائيل)، وكان هؤلاء اليساريون يجدون بالنظامين الايراني والسوري ومعهم حزب الله انهم من سيحرر فلسطين ؟!!.

كما عاد الكاتب بعد سنة من اندلاع ثورات الربيع العربي في نهاية كتابه ، أن يشكك (على استحياء) في مشروعيتها ؟!!، من خلال تساؤل استنكاري عن بوصلة ثورات الربيع العربي اتجاه قضية فلسطين ؟!!. في خلط غير مقبول بين القضايا، وكأن بوصلة الأنظمة التي تدعي التوجه لتحرير فلسطين مسموح لها ان تكون مستبدة وقمعية وتقتل شعبها وتشرده وتستدعي المستعمرين وتدمر البلاد. المهم ان لا تتنازل عن بوصلة فلسطين ؟!!. أي فلسطين هذه ؟. وماذا فعل النظام السوري منذ خمسين عاما لأجل فلسطين والجولان المحتل سوى الجعجعه الصوتية ؟!!، وحتى حزب الله صمت والتزم الهدنة على حدود لبنان وقبض ثمن ذلك مليارات امريكية اعترف بها نصر الله وفضحها صبحي الطفيلي امين عام حزب الله السابق. هذه سقطة يا عبد الإله لن تستطيع تبريرها…

وللتاريخ نقول: أننا ونحن ملتزمين سياسيا بقضايا أمتنا ومطالب الديمقراطية والحرية والعدالة في سورية، كنا نتواصل سابقا مع هؤلاء الناشطين وبعضهم اصدقاء لنا وذلك ما قبل الثورة السورية بسنوات، كنا نختلف معهم حول النظام السوري وجوده ودوره وكذلك ايران وحزب الله، كان لسان حالنا يقول كيف لنظام يضطهد شعبه ويظلمه ويكتم أنفاسه ويعيّشه في الفاقة والرعب، ويتصرف طائفيا، ويمتص خيرات البلاد دون وجه حق ؟!!، كيف نصدق هكذا نظام على انه محارب صادق في مواجهة اسرائيل؟!!. هل نكذب ما نعيش ونصدق ما يدعي كاذبا؟!!. كنا نختلف دوما ونعلم أنهم يدافعون عن مكتسبات الاعتراف بهم من النظام، وأنهم يحصلون على بعض المغانم المادية البسيطة.

وبعودتنا إلى صلب موضوع الكتاب نوضح أن الاقتراب الخجول من عبد الإله بلقزيز من موضوع النظام السوري، جعله يخلص لماضيه وعلاقاته معه ومع حزب الله، لكنه يخون البحث العلمي والموقف التاريخي الذي يجب أن يقفه بوضوح وموضوعية وصراحة، ولن نقبل الادعاء أنه لم يكن يعرف؟!!، ولا أنه يريد أن يحافظ على شعرة معاوية مع النظام وإيران وحزب الله،  بعد أن سقطت شرعيتهم الواقعية، بعد أن ساهموا بهدر دم الشعب السوري، وإن لم يسقطوا كأنظمة اليوم او بعد مئة عام .

هذا هو دور المفكر والسياسي المنتمي لقضايا شعبه. الشهادة الحقة في مكانها، قرنت بالاستشهاد في سبيل قضايا عظيمة.

أخيرا: لا نستطيع أن نغمط اهمية الكتاب وكونه قارب قضية الربيع العربي وثوراته، واستقرأها في السنة الأولى. وإننا بمحاولة ردم الهوة الزمنية لما حصل بعد ذلك، ساعد الكتاب ونحن بعد ذلك ان ننور الحالة التي وصل اليها واقع الربيع العربي لنصل للخلاصة التالية: غير مسموح دوليا واقليميا أن تُبنى دولا ديمقراطية؛ تسترد حق الناس بالحرية والكرامة الانسانية والعدالة، لأن ذلك سيضر بمصالح (اسرائيل) وامريكا والانظمة العربية المستبدة التابعة للغرب ومصالحه. وأن معركة الربيع العربي والحقوق والحريات بدأت وهزمت الى حين، وأن واقع تدمير سورية وقتل وتشريد شعبها، ورعاية الحرب الاهلية المدعومة دوليا واقليميا في ليبيا واليمن هي نتائج فرعية لرفض هذا الربيع العربي واسقاطه.

لكن كتبت صفحة في نهضتنا منذ عام ٢٠١١م. وما زلنا نعمل لكي تنتصر ثوراتنا مهما كان أمامها من عقبات، لأنها هي التي تحقق الشرعية التاريخية وحقوق الشعوب التي لم ولن تموت. كما اننا كشعوب لن نتنازل عنها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى