
بين تصريح ناري لدولت بهشلي يدعو فيه لتحالف استراتيجي مع موسكو وبكين، وزيارة رسمية للرئيس رجب طيب أردوغان إلى واشنطن للقاء نظيره الأميركي دونالد ترمب، الذي يطالبه بتجميد الاندفاع نحو بوتين، تجد تركيا نفسها أمام مفترق طرق استراتيجي غير مسبوق.
يلوّح بهشلي، القومي المتشدد وشريك أردوغان في “تحالف الجمهور”، بورقة الشرق الروسي – الصيني كخيار استراتيجي جديد أمام تركيا، في حين يواصل الأميركي شريك الخارج ، الضغط لقطع الروابط مع روسيا والصين، متجاهلًا علنًا أولويات أنقرة الإقليمية.
اقترح بهشلي تشكيل تحالف ثلاثي تركي – روسي – صيني، لمواجهة ما وصفه بـ”تحالف الشر الأميركي – الإسرائيلي”، قائلا: الخيار الأفضل دبلوماسيًا وسياسيًا وجغرافيًا لمواجهة الثنائي الذي يتحدى العالم، هو هذا الخيار البديل.
وبذلك يكون الزعيم القومي، إذا لم يكن ما يفعله مجرد مناورة سياسية ينفذها بالتنسيق مع شريكه وحليفه السياسي، قد وضع الكرة أمام مرمى أردوغان، تاركًا إياه أمام خيارات داخلية وخارجية معقدة تتطلب:
– حسم الرئيس التركي لخياره بين الواقعية السياسية والبراغماتية التي يتمتع بها، وبين الحماس والاندفاع السياسي الذي يطرحه بهشلي في الآونة الأخيرة، لقطع الطريق على تراجع شعبيته لصالح صعود أحزاب قومية صغيرة انتزعت كثيراً من قواعده ومناصريه.
– تحديد أردوغان لموقفه من خطوة تغيير استراتيجي عميق، تباعد بين تركيا وحلفائها في الغرب، وتقرّبها أكثر من شراكات محتملة مع بكين وموسكو في الشر .
من اللافت أن يواصل بهشلي شرح دوافع اقتراحه بالانفتاح الاستراتيجي على روسيا والصين، في الوقت الذي كان حليفه في ” تحالف الجمهور ” يعد حقائب العودة من قمة جمعته مع ترمب، في أجواء وُصفت بـ”الصادقة والبنّاءة ” . فهل ما يطرحه مجرد ورقة ضغط تكتيكية تقوّي موقف الرئيس التركي وهو يفاوض نظيره الأميركي ؟ أم هي دعوة حقيقية لتوجه جديد يعيد رسم بوصلة تركيا بعد قرن من الارتباط بالغرب؟ وأمام كل هذا ، إلى من سيصغي أردوغان؟
يقول بهشلي، الذي لم يتأخر أو يتردد للحظة في الوقوف بجانب الرئيس التركي منذ سنوات:
“إذا كان شركاؤنا في الأطلسي يتجاهلون أولوياتنا ومطالبنا، فهذا يعني أن الوقت قد حان للنظر باتجاه موسكو وبكين. هدف التعاون هو التشاور السياسي والتعاون الاقتصادي، لكن في حال استمرار مشهد الفوضى في الإقليم، فهذا يعني أن التعاون العسكري سيكون على طاولة التفاهمات أيضًا”.
ردة فعل أردوغان الأولى كانت تجاهله لهذه التصريحات مكتفيا بالقول “لم أتابع، فليكن خيرًا” ، تفتح الباب أمام عدة فرضيات : أن بهشلي أراد إيصال رسالة ضمنية بأن تحالفه مع “العدالة والتنمية” لم يعد مضمونًا إذا استمرت أنقرة بالتقارب مع الغرب . أو أنه يلوّح بورقة الشرق كأداة ضغط على الغرب. أو أنه جاد فعليًا، ويسعى لإقناع شريكه بتحويل دفة تركيا شرقًا، قاطعًا الطريق على إرث من التحالفات الغربية امتدّ لقرن من الزمن.
فهل نحن أمام بداية انقلاب في تموضع تركيا الجيوسياسي، وحيث تترك الضغوطات الداخلية والخارجية من كل صوب أردوغان أمام القرار الصعب؟
لم يكن مفاجئًا أن تتسرب في واشنطن أحاديث عن خطة أميركية جديدة يُفترض أن تُناقش قريبًا مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، لحسم الوضع المأساوي في غزة . ولم يكن تصريح المبعوث الأميركي توم باراك، قبل ساعات من لقاء ترمب – أردوغان، بأنه “يتوقع تشكيل حكومة سورية جديدة قبل نهاية العام تضم جميع المكونات”، مجرد جملة عابرة.
فهي تأتي بعد إعلان أنقرة – وقبيل زيارة أردوغان إلى البيت الأبيض – أنها لن تدعم إلا مشروع الدولة السورية الموحدة بجيش مركزي واحد، وترفض أي مشروع فدرالي أو تقسيمي.
توقيت هذه التصريحات، وتزامنها مع القمة الأميركية – التركية، يثير أكثر من تساؤل : هل هي مجرد محاولة لامتصاص غضب أنقرة والعواصم العربية؟ أم أنها تعبّر عن شعور أميركي حقيقي بأن “الاصطفافات الإسلامية – العربية” بدأت تأخذ شكلًا واقعيًا خارج المظلة الأميركية، بما يهدد مباشرة النفوذ الأميركي في الإقليم؟
تطورات هذين الملفين تؤكد أن التوتر بين أنقرة وواشنطن لم يعد خلافًا عابرًا، بل يرتبط مباشرة بتصورات الطرفين حول مستقبل المنطقة وحدود الأدوار المحتملة لكل منهما.
يُجمع كثيرون على أن ما تريده واشنطن من أنقرة أكثر بكثير مما هي مستعدة لتقديمه . يريد ترمب من أردوغان التوقف عن شراء الغاز والنفط الروسي ، لكن هذا المطلب غير عملي في ظل الظروف الحالية . يردد ترمب وهو في طريقه إلى قاعة الاجتماع بنظيره التركي إن الملفات العالقة مثل العقوبات الأميركية وصفقة المقاتلات التي تريدها أنقرة قابلة للحسم خلال دقائق إذا ما تفاهمنا في الداخل.
لكنه يتجاهل ما تقوله وتطلبه أنقرة في ملفات ثنائية وإقليمية معقدة . من دعم واشنطن لقوات “قسد”، إلى الصمت الأميركي إزاء الممارسات الإسرائيلية في غزة، وصولاً إلى ما تعتبره تركيا تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي في التصعيد الإسرائيلي الإقليمي.
استغرقت الزيارة الأولى لأردوغان إلى البيت الأبيض منذ ست سنوات أكثر من ساعتين، وانتهت إلى تفاهمات يُفترض أن نعرف تفاصيلها لاحقًا، ربما بعد قمة ترمب – نتنياهو.
اللافت أيضا أن أردوغان اختار الصمت أمام الكاميرات، ولم يدخل في نقاش علني حول غزة، مكتفيًا بربطة عنق حمراء تُذكّرنا باختيارات ترمب، وكأنها رسالة رمزية بأن الخلاف ليس شخصيًا، بل سياسي بامتياز.
يُشهد لترمب، التاجر المحترف، أنه لا يقدم التنازلات مجانًا. لكن لائحة المطالب والأولويات التركية التي حملها أردوغان إلى واشنطن ، أوجز بهشلي على طريقته ما بعهد تجاهلها أو رفضها.
يعرف دولت بهشلي أن اقتراحه ببناء التحالف الثلاثي هذا ليس خطوة عادية فهو: قد يعيد تركيا إلى ما قبل التزامها الأطلسي بعد الحرب العالمية الثانية .ويعني خروج تركيا من الناتو. وقد يقود إلى دفن ملف الانضمام للاتحاد الأوروبي وكذلك يؤدي إلى القطيعة العسكرية – التكنولوجية مع الغرب . ويتسبب بمواجهة اقتصادية أميركية أكبر من تلك التي شهدناها عام 2019. هذا إلى جانب الأخذ بعين الاعتبار الحاجة إلى موافقة موسكو وبكين على خطوة التحالف الثلاثي الذي تريده أنقرة أن يكون بعيدا عن شركاء “بريكس” أو “شنغهاي”.
ليس في أنقرة اليوم ما يشير إلى قرار حاسم، ولا في واشنطن ما يكفي من مؤشرات لبداية صفحة جديدة. أردوغان، العارف بلعبة التوازنات، قد يختار البقاء في المنطقة الرمادية، حيث يواصل الاستثمار في علاقات منفتحة مع الشرق والغرب. لكن مع تصاعد الضغوط من الداخل والخارج، قد تقترب اللحظة التي يُطلب فيها منه أن يحسم.. لا أن يوازن.
المصدر: تلفزيون سوريا