
يعتبر محافظون كثيرون وبعض اليساريين في إيران، السفيرَ ووزيرَ خارجية بلادهم، محمد جواد ظريف، رجل الولايات المتحدة في السياسة الإيرانية. لا يشفع له أن الولايات المتحدة فرضت عليه عقوبات مع مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي عام 2019. يكفي أن تشاهد مسلسل “غاندو” الإيراني، والجدل الذي أثير حوله، لتعرف كيف حاول بعض المتنفّذين تصوير ظريف مُهملاً ومتخاذلاً أمام الغرب، وضعيفاً أمام الأجهزة الأمنية، من خلال قصّة صحافي اتّهم بالتجسّس لحساب الولايات المتحدة، وأُفرج عنه. والمسلسل مبنيٌّ على حادثة حقيقية.
ترد هذه الاتهامات، ليس بسبب دراسة الرجل المرحلتَين الثانوية والجامعية في الولايات المتحدة وحصوله على الدكتوراه هناك، ولا بسبب أن بداية عمله كانت موظّفاً محلياً في الدبلوماسية الإيرانية في قنصلية بلاده في سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة عام 1980، ولا لشغله لاحقاً مهامّ القائم بالأعمال، وانتهاءً بتوليه مهام مبعوث إيران في الأمم المتحدة بين عامَي 2002 و2007، التي كتب عنها ظريف مذكّراته الأولى بعنوان “سعادة السفير”. نستبعد أن يكون السبب الحقيقي احتسابه ضمن خطّ الإصلاحيين، فالرجل صرّح إنه لا ينتمي إلى أي تيّار أو حزب، ولكنّه كان سفيراً في الأمم المتحدة ضدّ رغبة الرئيس المحافظ أحمدي نجاد، ودوره الأساس كان عندما استُوزر في حكومتَي الرئيس حسن روحاني، فتولى حقيبة الخارجية بين عامَي 2013 و2021، وأشرف على مفاوضات الملف النووي الإيراني، بعد أن كانت في عُهدة مجلس الأمن القومي أو وكالة الطاقة الذرّية الإيرانية. … هل يمكن أن يكون السبب رؤيته للمصلحة الوطنية الإيرانية بطريقة مختلفة؟
يزعم ظريف أن مبادرة إيرانية بشأن سورية عام 2013 رفضتها تركيا، أصبحت أساساً للقرار
يقول الوزير في مذكّراته الثانية “صمود الدبلوماسية… مذكّرات ثماني سنوات في وزارة الخارجية” (دار هاشم للنشر، القاهرة، 2025) إن قوة إيران ليست بصواريخها، بل بقدرة شعبها، وإن “القدرات الدفاعية لا تكفي من دون قوة اقتصادية وأخلاقية ومن دون الاهتمام بالمواطن ورفاهيته”. يجب أن يكون للشعب دور محوري ضمن هذه العملية؛ لأن “الحكم الأمثل والتنمية، وحتى القوة العسكرية والردع لا يمكن تحقيقها من دون الاعتماد على الشعب”. واللافت هنا أن ظريف يعنون مذكّراته بمفردةٍ مستعارةٍ من لغة الحرب، هي “صمود”، وربّما لينزع حجج مهاجميه بأنه “يضحك مع الأعداء ويصرخ في وجه الأصدقاء”. لم يكن ظريف يؤمن بلغة التهديد والشعارات بوجه الأعداء، بل كان مع “التعامل البنّاء في البنية الدولية المتنوعة والملتهبة”، وكان مع الانخراط في الحوار وعقد التحالفات من دون أوهام، وتجلّى ذلك في برنامج حكومة “التدبير والأمل”، بالعمل على كسر الإجماع الأمني ضدّ إيران، وإزالة العقوبات عن البلد وتحسين الظروف المعيشية.
ورغم تأكيد ظريف التزامَه نهج الخميني وخامنئي ومبادئ الثورة الإيرانية، فإنه في العمق يخالف ذلك، لا سيّما في قضية تصدير الثورة، فيقول: “وصل الكيان الصهيوني إلى هذه المنطقة، وها هو يثبت وجوده، وسبب ذلك أن الخوف موجود لدى جيراننا من أنهم إذا لم يأتوا بإسرائيل إلى المنطقة فإنّ إيران ستصبح القوة المهيمنة فيها”، والحلّ يكون عند ظريف “ليس بإزعاج الآخرين” بل “عبر طمأنة الدول المجاورة وليس تخويفها”. يذكر المؤلف أن أحد أكثر خصومه تشهيراً به هو مسؤول أُعدم عام 2023 بتهمة الخيانة والتجسّس لصالح بريطانيا، ويشير إلى علي رضا أكبري، الذي شغل منصب نائب وزير الدفاع الإيراني، ووُجّهت له اتهامات بنقل معلومات حسّاسة تتعلّق بالبرنامج النووي الإيراني وبالمؤسّسة العسكرية.
ولا يفرد ظريف مساحةً واسعةً لسورية في مذكّراته رغم أن التدخّل الإيراني في سورية كان في أوجه خلال فترة تولّيه الوزارة، وكان الموضوع الذي يشغل العالم بأسره، وسبب انقسام الدول والمجتمعات بما فيها المجتمع الإيراني، الذي كانت فيه أصوات تنادي بعدم مساندة إجرام الأسد لأسباب أخلاقية أو اقتصادية. ويمكن فهم إحجام ظريف عن التوسّع في المسألة السورية بأن الخارجية الإيرانية لم تكن لاعباً أساسياً في الموضوع السوري، الذي ارتبط بالحرس الثوري وقائد فيلق القدس قاسم سليماني وبشخص المرشد. لكن ظريف كان يريد الحفاظ على مظاهر الدور، ولذا قدّم استقالته بسبب تغيبيه عن اجتماعات الأسد خلال زيارته طهران عام 2019، إذ يروي ظريف: “كانت رحلة الأسد مخطّطة منذ البداية بالتنسيق بيني وبين قاسم سليماني”، ولم يُبلّغ ظريف بالزيارة، ونشرت صور اجتماع خامنئي بالأسد بحضور الرئيس حسن روحاني وآخرين. هكذا بدا بوضوح شديد غياب وزير الخارجية. بعد تقديم الاستقالة، زار سليماني ظريف في منزله، وأوضح له أن ما حصل سوء تنسيق، كما أجرى مقابلةً تلفزيونيةً شرح فيها ذلك، وبعد أيام زاره في مكتبه بزيّه العسكري لأخذ صورة مشتركة لنشرها. رغم شكوى ظريف من تعامل بعض الأجهزة مع وزارة الخارجية، ومن تهميش وعرقلة عملها ومنها مجلس الأمن القومي ووزارة الدفاع ووزارة الاستخبارات والحرس الثوري واستخباراته، وكذلك الإذاعة والتلفزيون، فإن ظريف حرص على رسم علاقة وردية مثالية مع قائد فيلق القدس المُغتال قاسم سليماني، فقد كانا يجتمعان أسبوعياً في الخارجية للتنسيق لوضع “خطّة مشتركة لحوار جادّ مع السعودية في خمسة ملفّات وهي الأزمات في لبنان والعراق وسورية والبحرين واليمن. في الدول الأربع الأولى كان الخلاف واضحاً، ولكن بحسب قراءة سليماني حينذاك، أي في عام 2013، فإن اليمن سيشكّل تحدياً في المستقبل”.
رغم تأكيد ظريف التزامَه نهج الخميني وخامنئي ومبادئ الثورة الإيرانية، فإنه في العمق يخالف ذلك
كانت السعودية تطلب دوماً أن يكون الحوار على المستوى الأمني، بحسب ظريف. يتحدّث عن مبادرة إيرانية بشأن سورية من أربع نقاط وضعها مع سليماني عام 2013 بالتشاور مع حسن نصر الله وبشّار الأسد، تتضمّن وقف إطلاق النار وتشكيل حكومة وطنية تضمّ عناصرَ من المعارضة، وتعديل الدستور لإجراء انتخابات على أساسه. رفضت تركيا المقترح الذي أصبح، كما يزعم ظريف، أصبح أساس قرار مجلس الأمن 2254. يكشف ظريف أن إيران هي من ألحّت على النظامين، السوري والعراقي، لمساعدتهما عسكرياً وأمنياً: “كانت حاجتنا لمواجهة التطرّف وهزيمته في العراق وسورية، أكبر من حاجة حكّام العراق وسورية، الذين كانوا في تحدّ مباشر مع منظّماته وداعميه”. ويرى ظريف أن بشّار الأسد كان قد ابتعد عن إيران بالتحالف مع تركيا – أردوغان، وكان “يعيق نجاحات السياسة الإيرانية في العراق”، لكن “الحركة المناهضة لبشّار الأسد في سورية عام 2011” أعادت سورية إلى “محور المقاومة”.
يكشف ظريف ملابسات التدخّل الروسي في سورية بناءً على طلب إيران، إذ كان سليماني يريد زيارة موسكو منذ شتاء 2014 بسبب قلقه من سقوط دمشق، ولكنّ موسكو تأخّرت في قبول دعوة سليماني حتّى أغسطس/ آب 2015، أي بعد توقيع الاتفاق النووي. وكانت الزيارة سرّيةً، ولكن الروس سرّبوا خبرها. كان سليماني، بحسب رواية ظريف، غاضباً جدّاً من سلوك روسيا في سورية، ولم تكن إيران تُدعى إلى أي اجتماع دولي حول سورية، ولم تكن روسيا تصرّ على دعوتها، وإنما من دعا إيران للمرّة الأولى هو وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري، مخاطباً ظريف: “تعالوا نحن وأنتم لنحلّ معضلة سورية، نحن القوى الرئيسة، لنضع هؤلاء المجانين جانباً”. لكن ذلك لم يجرِ بسبب عدم سماح القيادة الإيرانية لظريف بالتعامل مع الأميركيين إلّا في الملفّ النووي، فلم تحصل محادثات ثنائية، وبدأت دعوة إيران للاجتماعات الدولية.
طلبت روسيا من إيران السماح للطيران الروسي باستخدام المجال الجوي الإيراني لضرب مجموعات المعارضة السورية، رغم عدم حاجتها إلى ذلك بسبب وجود قاعدة جوية لها في سورية، وكذلك طلبت إرسال قوات إيرانية برية، ويُعلّل ظريف الطلبَين بأن روسيا لا تريد لإيران تطبيع علاقاتها مع الغرب.
لم يكن ظريف يؤمن بلغة التهديد والشعارات، بل كان مع التعامل البنّاء دولياً
يكشف ظريف أن “وجود إيران في ميدان الحرب السورية ودبلوماسيتها بمثابة إنجاز للاتفاق النووي، وفشل للمشروع الأمني ضدّ إيران”. كان سليماني يكرّر قبل كل زيارة له إلى موسكو شكواه من طريقة تصرّف العسكر الروس في سورية، وعدم اهتمام روسيا بالمحاذير والمخاوف الإيرانية “فطالما تركنا الروس وحدنا في سورية، وربما كانوا قد اتفقوا مع الولايات المتحدة، وأقنعوا الرئيس السوري بشّار الأسد بالمضي معهم، أو أنهم اتفقوا مع إسرائيل، وأجبروا الأسد على مماشاتهم أيضاً. أو أنهم اتفقوا مع الأتراك”. يضرب ظريف أمثلةً عن الافتراق الروسي الإيراني في سورية بما حصل عندما تمكّن فيلق القدس من السيطرة على حلب، فاتفق الروس والأتراك على خروج المسلحين إلى إدلب رغم التحذيرات الإيرانية المتكرّرة، إذ اتصل سليماني بظريف وأخبره بأنه لن يقبل بإجلاء المسلّحين من حلب إلّا مقابل إجلاء السكّان الشيعة من قريتَي الفوعة وكفريا في ريف إدلب. وبالفعل، أجلي بعض هؤلاء السكّان، وتوقّف الأمر بتدخّل بشّار الأسد بضغط روسي، فطلب من سليماني السماح بإخلاء مسلّحي المعارضة من حلب من دون شرطه بإخلاء قريتَي الفوعة وكفريا.
كانت إيران وسيطاً بين أجهزة المخابرات التركية والسورية سراً، إلى أن أخذت روسيا هاكان فيدان وعلي مملوك إلى روسيا، وكشف الاجتماع أن روسيا كانت “ضدّ الوساطة الإيرانية بين سورية وتركيا… فروسيا هي أقوى منافس لإيران في سورية”. لا يتحدّث ظريف عن الاتفاق النووي في هذا الكتاب بتوسّع، ويعلّل ذلك أن الموضوع قد بحثه في كتاب كبير مع مؤلّفين آخرين بعنوان “السرّ المختوم”، ولكنّه يذكر أنه في عام 2006 أُحيل الملفّ النووي الإيراني إلى مجلس الأمن، بعد أن كانت معالجته تجري في وكالة الطاقة الذرّية، ومن ثمّ صدر قرار مجلس الأمن 1696 بموافقة روسيا والصين عليه، ما خيّب التوقّعات الإيرانية باستخدام “فيتو” لمنع صدوره. بدأت المفاوضات السرية بين إيران والولايات المتحدة في مسقط في 2013، ويعزو ظريف نجاح الاتفاق إلى مفاوضاته مع كيري، وجهود علي أكبر صالحي.
مع نهاية المذكّرات، تتضح خيبة أمل ظريف ومرارته من عدم تقدير جهوده، ويكتب: “كان الأبطال التاريخيون لمعظم الحضارات البشرية محاربين ومقاتلين في ساحة المعركة، ولم يكونوا نشطاء في مجال الدبلوماسية”.
المصدر: العربي الجديد







“جواد ظريف” الوزير السابق بنظام طهران بمذكّراته الثانية “صمود الدبلوماسية… مذكّرات ثماني سنوات في وزارة الخارجية” إن قوة إيران ليست بصواريخها، بل بقدرة شعبها، وإن “القدرات الدفاعية لا تكفي من دون قوة اقتصادية وأخلاقية ..” قراءة موضوعية للمذكرات وطريقة تعامل جواد ظريف بالمسائل الدبلوماسية السلسة مع الغرب، والذي اعتبره البعض ممثل أمريكا بالإدارة .