فوبيا ” الديمقراطية”

حسن مدن

من أكثر الإشارات إشراقاً عند عبد الرحمن الكواكبي (1855 – 1902) في كتابه “طبائع الاستبداد …” التفريق النابه بين الاستبدادين، الشرقي والغربي، حيث لاحظ أنَّ المُستبدّين الغربيين لا يمنعون العلم إجمالاً، بل يحرصون على عدم إدراك النّاس أنَّ الحرية أفضل من الحياة، فهم يحاربون تعليم الناسِ حقوقَهم حتى لا ينقلبوا على ملوكهم مطالبين بها، لكنَّ المستبدين الشرقيين يحاربون العلم جُملةً وتفصيلاً (كأنَّ العلم نارٌ وأجسامهم بارود). ويضيف أنَّ “الاستبداد الغربي وإن كان طويل الأمد إلا أنَّه يتصف باللين، أما الشرقي فإنَّه سريع الزوال، لكنَّه أكثر إزعاجاً وأشدُّ وطأةً على الرعية، وهو إذا زال يخلفه استبداد أشدُّ وبالاً وأقوى سطوةً وتعسفاً”.
لسنا هنا في مقام البرهنة على صواب ما ذهب إليه الكواكبي. تكفينا نظرة إلى فظاعة الاستبدادِ الذي جاءت به الثورات والانقلابات التي أُنشئت على أنقاض المَلكيات؛ جمهوريات فاق استبداد بعضها ما عرفه الناس من عسف الحكومات التي أطاحتها، وجعلت الناس تترحَّم على الماضي، رغم مساوئه، بل خنقت هذه “الجمهوريات” وصادرت البرهةَ الليبراليةَ العربيةَ التي كانَ يمكن لها في ملابسات تاريخية أخرى أن تتطوَّرَ إلى نظام سياسيٍ برلمانيٍ تعدديٍ. والكواكبي الذي درس الاستبداد متّخذاً من سلوك الأتراك تجاه العربِ قاعدةً للبحث والمعاينة لمْ يُقدر له أنْ يرى حجم الاستبداد الذي جلبه العرب للعرب في عقودٍ لاحقىة.
قبل أكثر من عقدٍ كتبت مقالاً نشر على حلقتين في صحيفة الأيامِ البحرينية ينطلق من الفكرة أعلاه بعنوان: “هلْ نستبدلُ الاستبداد بآخر”، انطلقت فيه من الخشية التي تتزايد في أوساط سياسية وفكرية في البلدان العربية من أن يؤدّيَ سقوط الاستبداد في بعضِ البلدانِ العربية التي شملتها موجة التغييرات التي شهدناها، يومها، إلى نشوء استبدادٍ جديدٍ تمثله مخرجات الانتخابات التي جرت وستجري في هذه البلدان، وهي خشية لا يصحُّ الاستخفاف بها لأسبابٍ عدَّة. ومن هذه الأسباب هشاشة التقاليد الديمقراطية في البلدان العربية عامةً، بما فيها البلدان التي كانت أكثر قابليَّة وجاهزيَةً للتَغييرِ، بعدَ عقود طويلة من سطوة الاستبداد التي اقتلعت أيَّ غرسة تكاد تنمو للديمقراطية، بل قام هذا الاستبداد نفسه على وأدِ بواكير التحوُّلات نحو الديمقراطية بين مطالعِ ومنتصف القرن العشرين.
ومن هذه الأسباب أيضاً غياب الحامل الاجتماعيِ والسياسيِ للديمقراطية أو ضعفه، فالقوى التي حملتها وستحملها الانتخابات في البلدان العربية قادمة من منابت غير ديمقراطية، ولم يُعرف عنها، في ما سبق، انفتاحها على الأفكار الأخرى، بل إنَّها في بنيتِها الفكرية والسِياسية تحمل ميولاً إقصائية واستحواذية، رأينا تجليات كثيرة لها، ولكن الديمقراطية ليست هي الانتخابات وحدها، بل هي منظومة ثقافة متكاملة يجب تهيئتها. أما أن يترك الحبل على الغارب للقوى المحافظة كي تستحوذ على البسطاء عبر الصناديق الخيرية وأكياس الأرز والسكر، فيما المفروض أن تأمين هذه الحاجات هو من صلب مهامّ الحكومات لا سواها، وأن يجري التغاضي عن هيمنة هؤلاء على الأذهان، من خلال المنابر الدينية والمناهج الدراسية ومؤسّسات التعليم، ثم يقال لنا: انظروا إلى هذا الشعب الجاهل الذي يدفع في الانتخابات بمن هم أعداء العصر والحرية، فتلك لعبة سياسية ممجوجة.
حين دفع الزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة بمجلة الأحوال الشخصية التي أنصفت المرأة التونسية، وأطلقت طاقاتها الكبيرة التي كانت محبوسة، أتته نساء تونس، زرافاتٍ، يحيّينه على ما حققه لهن، ويومها انطلقت أصوات بعض المحافظين معترضة، فقال ما مفاده: لن أترك حفنة من المتحجّرين تضلل الناس ليقفوا ضد مصلحتهم.
أنظمة الاستبدادِ في الشَرق، وعالمنا العربي جزء من هذا الشرقِ، روَّجت، ولا تزال، أنَّ شعوبنا غير جديرةٍ بالديمقراطيَةِ، لأنَّها ليست ناضجةً لها، فهي تتطلب وعياً وثقافةً وتعليماً، ولكنَّ هذه حجةُ العاجزِ أو الخائفِ من ولوجِ الممارسة الديمقراطية؛ لأنَّه يجدُ فيها تهديداً لمصالحِه في الانفراد بالسلطةِ والثروةِ، فيما الديمقراطيَة تتطلَّب المشاركةَ السياسية، لا الانفراد بالقرار، وتتطلب التوزيع العادل للثروة، لا الاستحواذ عليها من قبل الفئات المتنفذة والمحتكرة للسلطة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى