
شهدت الصين أخيراً حدثين كبيرين أثارا اهتمام وسائل الإعلام الأجنبية والعربية التي ما زالت تنشر تحليلاتها لفهم الرسائل التي أرادت بكين وشركاؤها توجيهها من خلالهما، وما إذا كان الوقت قد حان للتفكير بمرحلة “ما بعد أميركا”. … الأول عقد قمة منظمة شنغهاي للتعاون في تيانجين، والتي اعتبرت أكبر قمة في تاريخ المنظّمة، وما أعطىاها طابعاً مميّزاً وأثار الاهتمام حضور رئيس وزراء الهند، ناريندرا مودي، الذي أثار وجوده غضب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في وقتٍ تشهد العلاقات الهندية الأميركية تدهوراً كبيراً بسبب الضغوط التي يمارسها ترامب على الهند، للقبول باتفاق تجاري لصالح واشنطن، وهو ما ترفضه نيودلهي. الحدث الثاني العرض العسكري الضخم الذي أقامته بكين في ساحة تيانانمين بمناسبة الذكرى الثمانين للانتصار في الحرب العالمية الثانية، بحضور قادةٍ عديدين، أبرزهم الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والكوري الشمالي كيم جونغ أون.
أثار حضور بوتين وكيم غضب الرئيس ترامب الذي اتهم الصين وروسيا وكوريا الشمالية بالتآمر ضد بلاده، حيث وجّه رسالة إلى الرئيس الصيني، شي جين بينغ، عبر حسابه على “تروث سوشال”، قال فيها “أرجو منكم إبلاغ أطيب تمنياتي لفلاديمير بوتين وكيم جونغ أون بينما تتآمرون ضد الولايات المتحدة الأميركية”.
يخشى ترامب من فرض رسوم جمركية على الصين بسبب شرائها النفط الروسي مع أنه فرض الرسوم الجمركية على الهند بسبب شرائها ذلك النفط
ليس خافياً أن الصين تشكل مصدر قلق للرئيس ترامب منذ ولايته الأولى، وحالياً يسعى جاهداً إلى عقد قمة مع الرئيس الصيني الذي يصفه بأنه صديقه، ولديه علاقات جيدة معه، ويتفادى الدخول في أي صراع مع بكين من أجل السير في عقد هذه القمة.
الصين اليوم مع الرئيس شي جين بينغ ليست هي الصين قبل العام 2013، إذ باتت لاعبا رئيسيا على المسرح الدولي، تسعى إلى تغيير موازين القوى وإنشاء عالم ثنائي القطب أو متعدّد الأقطاب. وقفت بكين في وجه الرئيس ترامب، ولم ترضخ للضغوط الأميركية وفرضت رسوماً جمركية على السلع الأميركية، واستخدمت ورقة المعادن النادرة ضد أميركا، حيث حظرت تصدير أنواع معيّنة من المعادن الأرضية النادرة، ما شكّل إرباكاً لدى الإدارة الأميركية.
ويخشى ترامب من فرض رسوم جمركية على الصين، بسبب شرائها النفط الروسي، مع أنه فرض الرسوم الجمركية على الهند، بسبب شرائها ذلك النفط. لذلك يحاول الدفع بالاتحاد الأوروبي إلى فرض رسوم جمركية على الصين، كي لا يتحمّل وحده غضب بكين في حال فرض الرسوم الجمركية عليها.
وقفت بكين بوجه الرئيس ترامب ولم ترضخ للضغوط الأميركية وفرضت رسوما جمركية على السلع الأميركية
تحاول دول عربية عديدة أن توازن في علاقاتها بين الولايات المتحدة والصين، والحديث عن اتجاه دول الشرق الأوسط إلى التخلي عن واشنطن لصالح بكين خاطئ بالنظر إلى استمرار أهمية الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. والمثال على ذلك أن دول الخليج العربي التي تقيم علاقات وثيقة مع الصين، وفيها مشاريع صينية ضخمة، ما زالت تسعى إلى علاقات طيبة مع الولايات المتحدة، والدليل الحفاوة التي استُقبل بها ترامب عندما زار الخليج في مايو/ أيار الماضي، والمليارات التي تعهدت الدول التي زارها باستثمارها في الولايات المتحدة. ومثال آخر مصر التي تقربت من الصين من دون أن تبتعد عن الولايات المتحدة، حيث شارك رئيس وزرائها مصطفى مدبولي لأول مرة في قمة منظّمة شنغهاي للتعاون باعتبارها شريك حوار في المنظمة، وأجرى البلدان مناورات جوية هي الأولى من نوعها بين جيشي البلدين. في المقابل، وافقت واشنطن على بيع أنظمة دفاع جوي لمصر بقيمة تناهز خمسة مليارات دولار.
حظي الحدثان اللذان شهدتهما الصين باهتمام عالمي كبير. أما في لبنان، الذي يتخبط بأزماته الداخلية وأوضاعه الاقتصادية السيئة، فلم يكن لهما أهمية تذكر سواء في وسائل الإعلام، أو في حديث المواطنين اليومية، إذ يكفي ما عانوه وما زالوا من أوضاع سياسية واقتصادية أرهقت كاهلهم بسبب الأزمة الاقتصادية التي ازدادت عام 2019، ومن ثم إغلاق البلاد بسبب تفشّي فيروس كورونا، وانفجار مرفأ بيروت، والضغوط الأميركية لعدم تقديم الدعم الخارجي للبنان إلى أن جاءت الحرب الإسرائيلية لتكون القشّة التي قصمت ظهر البعير. فضلاً عن أن أهم ما يشغل اللبنانيين اليوم نزع سلاح حزب الله، وما إذا كانت إسرائيل ستشنّ مجدّداً حرباً على لبنان في حال أصرّت المقاومة على الاحتفاظ بسلاحها، وفي حال عدم الرضوخ للمطالب الإسرائيلية في أثناء عملية ترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، لأن إسرائيل لا تفهم إلا لغة القوة، وصعوبة البدء بإعادة إعمار ما دمّره الكيان الصهيوني بسبب الرفض الأميركي والإسرائيلي.
دول عديدة تسعى إلى موازنة علاقاتها بين بكين وواشنطن ويمكن للبنان أن يخطو هذه الخطوة بموازنة علاقاته مع كلا البلدين
ما زال لبنان يتحاشى الاقتراب من الصين، خوفاً من إثارة غضب الولايات المتحدة والصين من جهتها تتجنب الدخول في لبنان طالما أنها لا ترى رغبة جدّية وحماسة لدى الأطراف اللبنانية للتعاون معها. ومن جهة أخرى، لا تريد بكين مواجهة واشنطن في لبنان، ولكن دولاً عديدة تسعى إلى موازنة علاقاتها بين بكين وواشنطن، ويمكن للبنان أن يخطو هذه الخطوة بموازنة علاقاته مع كلا البلدين، خصوصاً أن الصين أعلنت مرّاتٍ عن رغبتها في الاستثمار بلبنان، والتوجّه نحو دول أخرى كروسيا والهند وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبي كي لا يبقى لبنان محكوماً لجهة واحدة.
عيّن، قبل أشهر، تشن تشوان دونغ سفيراً جديداً للصين لدى لبنان، وقدّم في أوائل سبتمبر/ أيلول الجاري، أوراق اعتماده إلى رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون. ومنذ مجيئه إلى لبنان، زار السفير وزير الاقتصاد والتجارة عامر بساط ووزير الأشغال العامة والنقل فايز رسامني ووزير الداخلية والبلديات أحمد الحجار وغيرهم، وكانت له نشاطات مختلفة بهدف تعزيز التعاون بين الصين ولبنان الذي يمكن أن يلاقي خطوة الصين هذه بزيادة التقرّب منها عبر السماح بزيادة الاستثمارات الصينية فيه، والتي من شأنها التخفيف من حدّة الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها، وتحسين البنى التحتية فيه، والمساهمة في إعادة إعمار ما دمّرته الحرب.
صدقت نبوءة نابليون بونابرت عندما قال إن “الصين ماردٌ نائمٌ دعوه نائماً لأنه إذا استيقظ هزّ العالم”. وبالفعل، نلاحظ منذ سنوات أن الصين تطوّرت في مختلف المجالات، وأصبحت تتخطّى الولايات المتحدة في كثير منها، ويتمتّع لبنان يتمتع بإمكانيات وعقول وخبرات كبيرة يمكن الاستفادة منها للتفكير في المستقبل المزدهر، وليس في الحروب والنزاعات السياسية الداخلية والخارجية.
المصدر: العربي الجديد