العنصرية البيضاء في أميركا وكذبة خطاب المساواة

علي بكر الحسيني

حين نفتح ملف العنصرية البيضاء ضد السود في الولايات المتحدة، فإننا لا نستحضر مجرد قضية اجتماعية أو حدثاً عابراً يتكرر بين الحين والآخر، بل نغوص في جرح مفتوح منذ أكثر من أربعة قرون. جرح بدأ مع أول سفينة حملت أفارقة إلى السواحل الأمريكية في بدايات القرن السابع عشر، ولم يتوقف نزيفه حتى اليوم، رغم كل ما رُفع من شعارات الحرية والمساواة، ورغم كل القوانين التي حاولت أن تعلن موت العنصرية بينما ظلت الروح القديمة حية تتحرك في المؤسسات والشارع والوعي الجمعي. الصورة التي تقدّمها أمريكا عن نفسها للعالم بوصفها حارسة للحرية والعدالة تتهاوى أمام واقع يومي يعيشه ملايين السود، حيث اللون لا يزال حاجزاً، والتمييز لم يغادر، والعنف يترصّدهم في تفاصيل الحياة.

لقد بُنيت أمريكا الحديثة على مفارقة قاسية. فإعلان الاستقلال عام 1776 تحدّث عن حقوق الإنسان في الحرية والحياة والسعي وراء السعادة، لكن تلك الكلمات لم تكن موجهة إلى العبيد السود الذين كانوا عماد الاقتصاد الزراعي. استمرت العبودية حتى منتصف القرن التاسع عشر، وحين اندلعت الحرب الأهلية (1861–1865) وانتهت بإلغاء الاسترقاق رسمياً، ظن البعض أن صفحة جديدة قد فُتحت. لكن ما إن سكت صوت المدافع حتى عادت الحقيقة بأثواب جديدة: قوانين الفصل العنصري “جيم كرو” التي حكمت الجنوب لعقود طويلة، وفرضت على السود أن يعيشوا في مدارسهم الخاصة، أحيائهم الخاصة، وحافلاتهم ومطاعمهم الخاصة. لم تكن تلك القوانين مجرد تشريعات، بل كانت إعلاناً عن إرادة بيضاء في الحفاظ على التفوق بأي ثمن، وإدامة إحساس السود بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية.

جاء منتصف القرن العشرين ليحمل لحظة مقاومة كبرى. ارتفع صوت مارتن لوثر كينغ داعياً إلى سلمية النضال، وارتفع صوت مالكوم إكس داعياً إلى كرامة تُنتزع بالقوة، وانطلقت مسيرات الحقوق المدنية لتكسر جدار الصمت. صدرت قوانين الحقوق المدنية عام 1964 والحقوق الانتخابية عام 1965، وبدا أن الحلم يقترب. لكن التاريخ علّم السود أن الطريق أطول بكثير. لقد غابت لافتات “للبيض فقط”، لكن ظهرت جدران أخرى: مدارس متداعية في الأحياء السوداء، أحياء محاصرة بالفقر والبطالة، وسجون تمتلئ بشبابهم أضعاف نسبتهم السكانية. تغيّرت الأشكال لكن المضمون بقي حاضراً، عنصرية لم تعد تتحدث بصوت عالٍ كما في الماضي، لكنها تتسلل عبر السياسات والإجراءات اليومية لتعيد إنتاج الفوارق ذاتها.

الأرقام وحدها تفضح الواقع. متوسط ثروة الأسرة البيضاء اليوم يفوق عشرة أضعاف متوسط ثروة الأسرة السوداء. نسب البطالة دائماً أعلى عند السود، والدخل أقل، والفقر أكثر قسوة. حتى سوق العمل يكشف التمييز المستتر، فالدراسات أثبتت أن أصحاب السير الذاتية ذات الأسماء الأفريقية–الأمريكية يُستبعدون من فرص التوظيف أكثر بكثير من أصحاب الأسماء البيضاء. كل ذلك يعني أن “الحلم الأمريكي” ليس سوى حلم أبيض في جوهره، بينما يظل السود يكافحون للوصول إلى مكان يليق بمواطنتهم.

لكن التمييز لا يقف عند حد الاقتصاد والتعليم. هناك العنف المباشر الذي لا يرحم. جماعات التفوق الأبيض، بخطابها المسموم وأيديولوجيتها الموروثة، ارتكبت في العقد الأخير مجازر لا تُمحى من الذاكرة. من كنيسة تشارلستون عام 2015 حيث قُتل تسعة مصلّين سود على يد شاب أبيض متطرف، إلى مجزرة بوفالو عام 2022 حيث استهدف مسلح متجراً في حي تسكنه غالبية سوداء فقتل عشرة أبرياء بدم بارد. هذه الجرائم ليست مجرد انحرافات فردية، بل هي امتداد لخطاب يجد صدى في السياسة والإعلام، ويغذيه ميراث قرون من العنصرية التي لم تُقتلع من جذورها.

وإذا كان العنف المباشر صادماً، فإن العنف المؤسسي أشد خطورة. الشرطة الأمريكية، التي يفترض أن تحمي الجميع، تتحول في كثير من الأحيان إلى كابوس بالنسبة للسود. الإحصاءات المستقلة تؤكد أن احتمال مقتل المواطن الأسود على يد الشرطة يزيد ثلاث مرات عن احتمال مقتل المواطن الأبيض. القضايا التي تحولت إلى رموز ليست سوى قمة جبل الجليد: مايكل براون في فيرغسون 2014، بريونا تايلور في لويزفيل 2020، جورج فلويد في مينيابوليس في العام نفسه. صور الركبة على العنق وصرخة “لا أستطيع التنفس” لم تعد مجرد حادثة فردية، بل رمزاً لواقع يتكرر بأشكال مختلفة كل عام. ومع أن احتجاجات “حياة السود مهمة” ملأت الشوارع وأجبرت العالم على النظر إلى الوجه الحقيقي لأمريكا، إلا أن الأرقام بقيت كما هي: أكثر من ألف قتيل سنوياً على أيدي الشرطة

(ذكرت في مقال سابق النسب بحسب الواشنطن بوست )، والسود دائماً في موقع الاستهداف الأكبر.

المفارقة المؤلمة أن الدولة التي ترفع شعار الديمقراطية عالمياً وتستخدم ملف حقوق الإنسان كأداة ضغط سياسية، تفشل في حماية جزء من مواطنيها في الداخل. كيف يمكن لدولة أن تُعلّم الآخرين دروس المساواة وهي عاجزة عن تطبيقها بين أبنائها؟ وكيف يمكن أن تدعو الشعوب إلى تجاوز الصور النمطية بينما هي نفسها أسيرة صورة نمطية ترى في الأسود تهديداً وفي الأبيض امتيازاً ؟ إن هذا التناقض لا يضعف فقط مصداقية الخطاب الأمريكي، بل يكشف عجزاً عن مواجهة الذات وتاريخها.

إن مواجهة هذه الحقيقة لا تعني اتهام كل أمريكي أبيض، ولا شيطنة مجتمع بأسره، لكنها تعني الاعتراف بأن العنصرية ليست مشاعر فردية عابرة، بل منظومة كاملة تعيد إنتاج نفسها عبر القوانين والسياسات والإعلام. طالما ظل السود في المرتبة الأدنى من الدخل والثروة، وطالما ظلوا الأكثر تعرضاً للعنف الشرطي، وطالما ظلت جرائم الكراهية تستهدفهم في كنائسهم وأحيائهم، فإن الحديث عن “أمريكا المساواة” سيبقى حديثاً ناقصاً .

أنا ضد القتل والعنف بكل أشكاله وصوره، ولا أبحث عن تبرير لمأساة من مأساة أخرى. لكنني أصرّ على أن الأرقام والوقائع لا يمكن طمسها. هذا التاريخ الطويل من العنصرية البيضاء ضد السود هو مرآة تُظهر الوجه الآخر لأمريكا، الوجه الذي لا يراه العالم حين ينصت إلى خطاباتها الرنانة عن الحرية. وإذا كان هناك من سبيل لتجاوز هذه المأساة، فإنه يبدأ أولاً بالاعتراف، ثم بمواجهة الميراث الثقيل لا تجميله.

يبقى السؤال مفتوحاً: هل تستطيع الولايات المتحدة أن تتحرر من ماضيها وتتصالح مع نفسها؟ هل يمكن أن تتحقق ديمقراطية حقيقية تبدأ من الداخل، تمنح السود حقهم في الحياة والكرامة على قدم المساواة مع غيرهم؟ الإجابة عن هذا السؤال وحدها هي التي ستحدد ما إذا كانت الديمقراطية الأمريكية ستبقى مجرد قشرة تخفي واقعاً دموياً، أم تتحول إلى تجربة إنسانية صادقة تعطي المعنى لما ترفعه من شعارات. وحتى يحين ذلك اليوم، سيظل جرح العنصرية البيضاء ضد السود شاهداً حياً على تناقضات بلد لم ينجح بعد في التوفيق بين خطابه المثالي وواقعه المليء بالتمييز .

إن استحضار هذه الأرقام والوقائع ليس غايته التشهير بالولايات المتحدة ولا الاكتفاء بإدانة الآخر، بل هو أيضاً رسالة إلى القارئ العربي كي يعيد النظر في تجربته وواقعه. فما يجري هناك يمكن أن يكون مرآة لما يجري هنا، وإن اختلفت الأشكال والسياقات. نحن في الوطن العربي لسنا بمنأى عن مشكلات التمييز، ولسنا بعيدين عن صور الظلم التي تطال بعض أبنائنا بسبب انتماءاتهم الطائفية أو المذهبية أو القومية. إن عنف الشرطة في أمريكا والعنصرية البيضاء ضد السود تذكير صارخ بأن المجتمعات لا تلتئم إلا حين تجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها، وحين تكفّ عن دفن الجراح تحت شعارات الوحدة الزائفة.

علينا نحن العرب أن نتعلم من تلك المأساة أن التعايش الحقيقي لا يتحقق بالخطابات وحدها، بل بالاعتراف بمكامن الخلل والغبن، وأن الانكار وتغطيته بلغة عمومية لا يزيد الأمور إلا تعقيداً. ما نحتاجه هو الاعتراف الصريح بالمشكلات، وتسمية الممارسات التي تُقصي أو تهمّش أو تضع مواطناً في مرتبة أدنى من مواطن آخر. فلا يمكن أن نتحدث عن حرية وعدالة ونحن نغضّ الطرف عن معاناة بعض أبناء مجتمعاتنا ونعتبرها “مسائل ثانوية” لا تستحق النقاش.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى