
حتى مساء الثلاثاء في 9/9/2025 كانت النظرة السائدة إلى حد كبير لدى المحللين السياسيين العرب وآخرين أن الولايات المتحدة بزعامة الرئيس ترامب تريد فرض الاستقرار في منطقتنا من أجل التفرغ للخطر الكبير القادم من الصين من ناحية , ولأن مشاكلها الاقتصادية لم تعد تحتمل نشر قواتها كما اعتادت أن تفعل لدى 835 قاعدة عسكرية في 80 دولة حول العالم , وهناك اتجاه متزايد لدى الادارة الأمريكية في تقليص النفقات الدفاعية التي كانت ترتبط بالعقيدة العسكرية الأمريكية التقليدية في الهيمنة العالمية , هذه العقلية التي خضعت لمراجعات مازالت سارية حول مدى مطابقتها للمصالح الأمريكية العليا في ظل نظام عالمي يشهد بروز منافسين أقوياء مثل الصين وروسيا . وحول الطريقة المثلى للتأقلم مع الواقع الجديد بدل مواجهته مواجهة قد لاتكون مجدية أو مفيدة للولايات المتحدة في المدى الأبعد .
هذه النظرة كانت توحي بمنافسة بين استراتيجية اليمين المتطرف في اسرائيل في فرض هيمنة اسرائيل العسكرية على المشرق العربي عبر الحروب واستخدام القوة والعمل لجعل اسرائيل الدولة الاقليمية الأولى في المنطقة بعد إزاحة كل من مصر والعراق ثم ايران عن المشهد السياسي – العسكري . وبين استراتيجية الولايات المتحدة في تهدئة المنطقة وفرض نوع من الاستقرار فيها من خلال ضرب ايران ووكلائها في لبنان وسورية ( النظام البائد ) واليمن واحتواء العراق بابعاده عن ايران ونزع سلاح الميليشيات التابعة لايران مثل الحشد الشعبي .
لكن الهجوم على الدوحة لمحاولة اغتيال قيادات حماس أثناء دراستهم لآخر مقترح أمريكي لصفقة تتعلق بالأسرى الاسرائيليين لدى حماس مقابل انهاء حرب غزة وفتح المعابر كان بمثابة مطرقة ثقيلة أحدثت خرقا كبيرا في مصداقية ذلك التحليل الاستراتيجي السائد المبني على وجود حالة تنافس سياسي تكتيكي على الأقل بين الولايات والمتحدة واسرائيل .
بل أكثر من ذلك فهي قد أحالت التحليل السياسي نحو منحى آخر يتوجب على صناع الرأي والقرار التفكير فيه بصورة جدية .
فأي تفكير منطقي لايمكنه قبول وضع الموقف الأمريكي من الهجوم الاسرائيلي على الدوحة سوى في خانتين متقاربتين في النتيجة , فإما أن الادارة الأمريكية كانت متواطئة في الهجوم على الدوحة أو أنها كانت عاجزة عن ردع اسرائيل عن القيام بذلك الهجوم .
وعجز الادارة الأمريكية عن ردع الهجوم يدل على وضع داخلي لدى تلك الادارة التي تتعرض لضغوط متزايدة من اللوبيات الصهيونية إلى حد الاستسلام لنزعات اليمين الاسرائيلي والتماهي مع الاستراتيجية العسكرية الاسرائيلية في المنطقة ومحاولة دمجها مع استراتيجية أمريكية معدلة تلغي أي حالة تنافس بين السياسة الأمريكية والاسرائيلية وتستعيض عنه بحالة تكامل وتوزيع للادوار .
فاسرائيل تغتال قادة حماس , والولايات المتحدة لاتستنكر الهجوم بطريقة جادة واضحة بل بنوع من تبرئة نفسها من ذلك الهجوم مع أقل حد من إظهار المعاتبة لاسرائيل .
وبعد اغتيال قادة حماس يصبح الطريق أسهل لاحتلال غزة عسكريا بصورة تامة وتهجير معظم سكانها وجعل غزة منتجعا أمريكيا وفق تصور يحمل من السخرية بالعقل العربي أكثر مما يحمل من الاستهانة والازدراء .
هنا يصبح اغتيال قادة حماس اجراءا متفقا عليه وليس تمردا لنتنياهو على سياسة أمريكية معلنة تقول بالعمل على استقرار المنطقة ونزع فتيل الحروب ووضع حل سياسي مقبول لمصير الشعب الفلسطيني .
لايقلب هذا الهجوم الاسرائيلي الأرعن الذي يكشف بطريقة فظة عن مشروع هيمنة اسرائيلي عسكري يتم تنفيذه بالقوة المجردة من أي غطاء سياسي مهما كان رقيقا وشفافا أقول لايكشف عن عدم مصداقية التوجه الأمريكي لفرض الاستقرار في المنطقة ولجم النزعة العدوانية لليمين الاسرائيلي فقط , ولكنه يفرض مراجعة كل مايتصل بتلك النظرة من جعل التحالف مع الولايات المتحدة طريقا لتأمين الحماية والاستقرار لدول المنطقة التي باتت أمام خيارين لاثالث لهما إما الخضوع التام للقوة الاسرائيلية المدعومة أمريكيا في الحقيقة والعمق أو التوجه لخيارات أخرى لابد منها بعد تحطم أي أمل في دور أمريكي معتدل ينطلق من أن الاندفاعة العسكرية للحكومة الاسرائيلية أصبحت عقبة كبرى في طريق استقرار المنطقة والعالم .