
عرف الفضاء الثقافي العربي مصطلحات “مستورَدة”، لا تمتّ دلالاتها بأي صلة لتراثنا الفكري، أقحمها بعضهم، بقصدٍ أو من دونه، على مفردات الخطاب الثقافي والفكري العربي، والأمثلة كثيرة متنوّعة، فقد دأب التنويريّون إيّاهم عقوداً على نقل مصطلحاتٍ ذات دلالات فكريّة وثقافيّة، خرجت في سياق تاريخي واجتماعي وسياسي، يختلف كلّ الاختلاف عن سياقنا التاريخي والاجتماعي والسياسي، ثمّ أسقطوها، رغم الاختلاف الكبير في دلالاتها، على الواقع العربي بهدف نقده والسعي إلى تغييره، وفق معاييرهم “التنويريّة” التي تجنح دوماً إلى فرض الوصاية الاستعلائيّة على عموم الناس.
من هذه المصطلحات التي أقحمها التنويريّون إقحاماً فجّاً على المُعجَم الفكري والثقافي العربي، وفرضوها على المُشتغلين بتحليل الظواهر السياسيّة والاجتماعيّة مصطلح”الأصوليّة”، الذي راج على ألسنة أهل التنوير وأقلامهم عند حديثهم عن الظاهرة الإسلاميّة، فطالما أرغى التنويريّون وأزبدوا في التحذير من خطورة “الأصوليّة الإسلاميّة” ذات الطابع الظلامي المخاصمة للعصر والحداثة، التي تهدف إلى العودة إلى عصور سحيقة، مُقتفين بتلك التسمية آثار بعضهم من الكتّاب الغربييّن غير الموضوعييّن، الذين خلعوا ذلك المصطلح أو التوصيف على الإسلاميين جميعاً، نظراً إلى المدلول التاريخي الذي يحمله مصطلح الأصوليّة في العقل الجمعي الغربي.
راج ذلك المصطلح وانتشر في الفضاء الفكري والثقافي والإعلامي العربي، فقد ردّد كثيرون مصطلح “الأصوليّة” من دون وعي أو محاولة البحث في أصله، أو استكناه طبيعة البيئة التاريخيّة والظروف الاجتماعيّة التي أفرزته، ومن شأنها إسباغ دلالات معيّنة على الموصوفين به وفق السياق التاريخي الذي أنتجه.
طالما أرغى التنويريّون وأزبدوا في التحذير من خطورة “الأصوليّة الإسلاميّة” ذات الطابع الظلامي المخاصمة للعصر والحداثة
تقول القاعدة إن تحرير المصطلحات يؤدّي إلى تحديد المسارات، ومفهوم مصطلح “الأصوليّة” في الثقافة العربيّة والإسلاميّة يختلف تماماً عن مفهومه في الثقافة الغربيّة، فمفهوم كلمة “أصولي” في الثقافة العربيّة يرجع إلى علم أصول الفقه القائم على إعمال العقل في التعامل مع النصوص الشرعيّة، عند إسقاطها على الواقع بهدف استنباط أحكام وآراء فقهيّة جديدة تتناسب مع تغيّر السياق الزماني والمكاني، فالأصوليّون هنا هم أهل الاستنباط والاستدلال والاجتهاد والتجديد في الأحكام الفقهيّة، كما يعود وصف “الأصولي” إلى أهل العِلم في أصول الدين من الراسخين في ثوابته الإيمانيّة وقواعده الكلاميّة، ودلالات الكلمة في التراث الإسلامي دلالات إيجابيّة في كلّ الأحوال.
يختلف الأمر تماماً عند الحديث عن مفهوم كلمة “أصولي” في الثقافة الغربيّة، التي تقترن بالصراع الكنسي الذي شهدته أوروبا، عندما ظهرت فرقة طالبت بالتأويل الحرفي للنصوص الدينيّة، بهدف الحفاظ على الأصول التي قامت عليها النصوص الإنجيليّة من عبث الأهواء السياسيّة، والاشتباك الذي وقع بين ما هو ديني وما هو سياسي، والصراع المُستعِر حول مساحة الدور السياسي الكبير الذي لعبته الكنيسة، وما أدّى إليه من حروب دمويّة طويلة عرفها التاريخ الأوروبي والغربي لم يعرفها تاريخنا أو تراثنا، فالأصوليّون في الثقافة الغربيّة هم أهل الجمود والتشدّد والتقليد والتحجّر، الذين يخاصمون العقل والتأويل والقياس، والذين يعادون التفكير العلمي، وهو مدلول شديد السلبيّة يبتعد بمضمون المصطلح كلّ الابتعاد عن دلالاته في الثقافة العربيّة والإسلاميّة.
رغم الاختلاف الشاسع بين دلالات مفهوم مصطلح “الأصوليّة” في التراث العربي عن دلالاته في الفضاء الغربي، بيْد أن التنويريّين أصرّوا إصراراً جهيراً على استخدامه عند الحديث عن ظاهرة خرجت من صميم واقعنا، ودأبوا على فرضه على الفضاء الفكري والإعلامي من دون تبصّر باختلاف دلالاته، وهو ما يعكس قدراً غير خافٍ من التبعية الفكريّة، فضلاً عن نزعة استشراقيّة استولت على عقول التنويرييّن، لدى تصدّيهم لمحاولة تفسير أسباب الظواهر السياسيّة والاجتماعيّة في مجتمعاتنا، ما يجعل تحليلاتهم العميقة محفوفة بالاختزال ومجافية أبسط قواعد الموضوعيّة. ومن ناحية أخرى، قد يحمل ذلك رغبة، بدرجة أو بأخرى، بوصم الموصوفين به بالدلالات السلبيّة نفسها التي يحملها المصطلح نفسه في الثقافة الغربيّة، بغرض تشويه صورتهم ومحاولة تصفيتهم معنويّاً وفكريّاً، وجعلهم في موقع المدافعين الدائمين عن أنفسهم من أجل تحسين صورتهم.
يؤدّي تحرير المصطلحات إلى تحديد المسارات، ومفهوم مصطلح “الأصوليّة” في الثقافة العربيّة والإسلاميّة يختلف تماماً عن مفهومه في الثقافة الغربيّة
المفارقة العجيبة أنه منذ ظهور الظاهرة الإسلاميّة، باختلاف تنويعاتها وتعدّد حركاتها، وتتابع أجيالها، سواء كانت ذات نهج معتدل، أم ذات نهج مُتطرّف، وسواء كانت ذات نزعة سلميّة أم ذات نزعة عنيفة، فإن الأمر الثابت والقدر المُتيقَن منه أن أياً من تلك الحركات وصفت نفسها بأنها “أصوليّة”، أو ذات نهج “أصولي”. ومع ذلك، أصرّ التنويريّون على وصف تلك الحركات بـ”الأصوليّة” رغماً عنها (!).
كتب الراحل طارق البشري في سياق تعليقه على إصرار بعضهم على إلصاق صفة “الأصوليّة” بالإسلاميّين ، فقال: “من يتعاملون بالمرجعيّة الإسلاميّة في السياسة، فِكراً أو حركةً، لا يُسمّون أنفسهم بالأصولييّن، وليس من حقّ أحدٍ أن يُطلق على آخر من الأسماء غير ما أسمى به نفسه، إلا أن يكون طالباً إفناء هذا الآخر، والسبق بالحُكم بأن ليس لهذا الآخر “حقّ” في الوجود، وإذا كان اسمي زيداً، فمن حقّي ألّا أقبل أن أردّ على شخص أو أتعامل معه عندما يُناديني “يا بكر””.
الأدهى إصرار التنويرييّن على قصر توصيف “الأصوليّة” على الإسلامييّن دون سواهم، بتسليط أضواء النقد والتجريح على “الأصوليّة” المنثورة في خطاب الإسلامييّن من جهة، في مقابل غضّهم النظر بصورة شبه كاملة وتغاضيهم عن الحضور الفجّ لـ”الأصوليّة” في الخطاب السياسي الغربي، فضلاً عن تعاميهم عن رؤية الظلال “الأصوليّة” القاتمة في الخطاب السياسي الصهيوني الذي تجاوزت “أصوليّته” كلّ الحدود في العاميْن الماضييْن، وتمثّلت في تصريحات علنيّة عديدة للمسؤولين الإسرائيلييّن، منذ انطلاق الحرب العدوانيّة الإسرائيليّة الهمجيّة، أو جريمة الإبادة الجماعيّة مكتملة الأركان التي ترتكبها إسرائيل في حربها على قطاع غزّة، عبر ترديد نبوءات توراتيّة ممزوجة بأساطير صهيونيّة، وهي مفارقة كاشفة فاضحة تكشف زيف الخطاب التنويري الذي لا يرى “الأصوليّة” إلا بعيْن واحدة.
المصدر: العربي الجديد