
لم يحصل في تاريخ الصراعات، بمستوياتها المختلفة، أن قتل الطرف الخصم الطاقم المفاوض للطرف الآخر، ومعروفٌ أن الأطراف المتخاصمة تعمل على تعزيز أوراقها الميدانية لاستثمارها على طاولة المفاوضات لدفع الطرف المقابل إلى القبول بشروطه لإنهاء الحرب، فالمفاوضات، بشكل عام، هي صدى وانعكاس للواقع الميداني، ولا يمكن لمفاوضٍ تغيير الواقع أو التحكّم به إذا فشلت الأدوات العسكرية في أداء هذه المهمّة.
ما قامت به حكومة نتنياهو المتطرّفة، في العدوان على الدوحة، عملية مركّبة الى حد بعيد، فبالإضافة إلى استهداف مفاوضين في أثناء مناقشتهم مقترحاً طرحه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لإنهاء الحرب في غزّة، وهو أمرٌ مخالفٌ كل الأعراف الدبلوماسية، فإنه يستهدف دولة ذات سيادة وشريكاً أساسياً في مفاوضات السلام، وفّرت ظروفاً آمنة للمفاوضين الإسرائيليين، فضلا عن أن الدوحة مركز وساطة عالمي، وتؤدّي دوراً مطلوباً عالمياً.
كما أن قطر جزءٌ مهم من منظومة الدفاع عن المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، عبر استضافتها قاعدة أميركية، كما أنها مُصنفة أهم حليف استراتيجي للولايات المتحدة من خارج حلف الناتو، لما لها من وزن وأهمية في الحسابات الاستراتيجية، ولكن البعد الأيديولوجي الذي تتقاطع عنده كل من الصهيونية وأميركا يبدو أنه أهم من الاعتبارات الجيوسياسية في نظر النخب الأميركية.
وفي إطار التعقيدات المحيطة بالاعتداء الإسرائيليي على قطر، يمكن تسليط الضوء على الدور الأميركي، ذلك أن استهداف الوفد المفاوض الذي كان يناقش مقترح الرئيس الأميركي، هو، في الشكل والمضمون، استهتارٌ بالدور الأميركي، وإضعافٌ لفعالية واشنطن في إدارة الصراعات في المنطقة، واقتطاع كبيرٌ من رصيد الثقة بدورها في إحلال الاستقرار في المنطقة، ومؤكّد أن ينعكس ذلك على سمعة الولايات المتحدة في العالم.
العملية الإسرائيلية تجاوز لكل الخطوط الحمر في المنطقة، ورسالة من حكومة نتنياهو أن إسرائيل ليست معنية بإنهاء الحرب على غزّة وفق تفاهمات دولية
لافت أن الموقف بدا مرتبكاً إلى حد بعيد، وقد صاغت واشنطن البيان الذي أدلت به المتحدثة باسم البيت الأبيض بدقّة وحذر، وحاولت واشنطن عبر البيان اتباع سياسة ملتبسة، إذ لم يعترف البيت الأبيض بوجود تنسيقٍ مسبقٍ بين نتنياهو وترامب، ولم يُظهر تأييداً صريحاً للاستهداف. وبحسب البيان فإن ترامب تبلغ بالضربة في اللحظات الأخيرة، ويبدو أن إسرائيل نسَّقت مع الجانب العسكري الأميركي، وتركت له مسألة إخبار ترامب بالأمر.
ثمة تفسير آخر برز في إطار فهم السياق الذي جرت به الضربة الإسرائيلية والدور الأميركي، إذ هناك من يعتقد أن ترامب قام بمناورةٍ، بغرض الإيقاع بقيادة “حماس” في الخارج، تماماً كما فعل قبل الضربة الإيرانية، عبر إيهام القيادة في طهران أن لديهم هامشاً للتحرّك ما داموا في مرحلة تفاوض، ثم توجيه ضربة قاضية لأغلب القيادات العسكرية والأمنية، تدلّ على هذا تصريحات نتنياهو بتوفر فرصة عملياتية للقيام بالمهمة، وأن الفترة المُحدّدة لرد “حماس” على المقترح لم ينته بعد، كما لم يُعلن ترامب انتهاء المهلة للردّ على مقترحه، وإن لم يكن الأمر كذلك، فهذا يؤشّر بشكل واضح على ضعف تأثير ترامب على نتنياهو.
واضح أن نتنياهو يستند إلى دعم المستوى العسكري الأميركي بشكلٍ لا لبس فيه، فمن غير المعقول استهداف الدوحة التي تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة، من دون حساب للتداعيات التي قد تواجهها القوات الأميركية في المنطقة، وقد جرى تحييد الجانب السياسي، ممثلاً بالرئيس ترامب الذي لديه حسابات مختلفة، سيما على صعيد علاقاته مع دول الخليج، وبدا ذلك واضحاً من مسارعته إلى الاتصال بأمير قطر، وإبداء أسفه على ما حصل، وتأكيده عدم تكرار هذا الأمر.
لم تعد تكفي البيانات الشاجبة، ولا الرهانات على الطرف الأميركي، الذي يبدو داعماً بقوّة لإسرائيل
العملية الإسرائيلية تجاوز لكل الخطوط الحمر في المنطقة، ورسالة من حكومة نتنياهو أن إسرائيل ليست معنية بإنهاء الحرب على غزّة وفق تفاهمات دولية، ولديها فرصة لفرض رؤيتها القائمة على تهجير سكان القطاع، وإعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية في المنطقة. وأبعد من ذلك، تحقيق حلم إسرائيل الكبرى، عبر تمزيق دول المنطقة للسيطرة على أراضيها وطرد شعوبها، وهو ما تفعله بشكل صريح في سورية ولبنان، وتتجهز للقيام به في مصر والأردن والعراق، وتشكل تحرّكاتها العدائية في المنطقة نوعاً من الاختبار لشكل ردود الفعل الإقليمية والدولية لصياغة استراتيجية مناسبة للتعاطي معها.
في ظل ذلك، باتت الكرة أكثر من أي وقت في المرمى العربي، إذ لم تعد تكفي البيانات الشاجبة، ولا الرهانات على الطرف الأميركي، الذي يبدو داعماً بقوّة لإسرائيل، على الأقل الدولة الأميركية العميقة، التي تشكل مخزن إسرائيل من الذخائر والأسلحة الفتاكة ومختلف أنواع الدعم اللوجستي والسياسي والاقتصادي، ويتطلب ذلك من الجانب العربي المسارعة في تشكيل غرفة عمليات موحّدة، على جميع المستويات، واستخدام كل الأوراق الدبلوماسية والاقتصادية، فضلاً عن التلويح بالقوّة العسكرية في مواجهة الجنون الإسرائيلي، وإلا لن يتوانى نتنياهو وعصابته عن إعادة العالم العربي إلى مرحلة الاستعمار البغيضة.
المصدر: العربي الجديد