الخرائط السرية: كيف يحتفظ المزارعون بمسارات حقولهم بعد عشر سنوات من الغياب؟

محمد موسى محمد ديب

يقف المزارع الثمانيني مصطفى الموسى، على حافة أرضه في ريف إدلب الجنوبي بعد غيابٍ مُوجع دام عشر سنوات، ذاهباً ببصره نحو تضاريس أرضه التي يحفظها عن ظهر قلب، لكن المفارقة أنّ أرضه لم تعد كما كانت، فحجارة التخوم التي رُصّت كلوحة مرسومة باتت مُختفية، وشجرة التين المُعمّرة على رأس أرضه، لم يبق منها سوى جِذع مُتآكل من شظايا الحرب، والساقية التي كانت تجري في الربيع جفّت وأصبحت مجرّد أثر في التراب.

يحاول الحاج مصطفى أن يستعيد في ذاكرته تفاصيل الأرض كما كانت: أيمنُها كان يزرع قمحاً، وأيسرُها كان كرماً للعنب، وفي وسطها كان يجلس مع والده ليستريحا بعد ساعات العمل الطويلة.

اليوم، وهو يخطو خطواته الأولى داخل حقله بعد عقدٍ من التهجير، لا يحمل أوراقاً رسمية ولا خرائط مطبوعة، بل يحمل خريطةً أخرى محفوظة في ذاكرته: علامات الطبيعة، حكايات الأجداد، وأحاديث الجيران.

ورغم تبدّل الملامح وتغيّر المشهد، يصرّ على أن ذاكرته قادرة أن تقوده من جديد نحو أرضه، وكأنها الوثيقة الوحيدة التي لم تستطع الحرب سرقتها.

نظام الأسد عبث بذاكرة الفلاحين

منذ سنوات التهجير الأولى، كان المزارعون في ريفي إدلب الجنوبي وحماة الشمالي أكثر الفئات تضرراً من آلة الحرب، ومع الحملة العسكرية الواسعة والتي شنتها قوات الأسد وحلفاؤها بداية عام 2019، والتي استهدفت البشر والأرض معاً، ومع تقدم الميليشيات للقرى والمدن سارع الأهالي إلى النزوح إلى الشمال السوري والمخيمات، تاركين خلفهم منازلهم وحقولهم في يدِ الجلاد، حتى أصبحت الأراضي الزراعيّة جزءاً من الغنائم الموزعة على الضباط والميليشيات الموالية.

ولم تكتفِ ميليشيات الأسد باحتلال القرى والبلدات، بل عملت على تفكيكها وبيعها، وكل شيء تم اقتلاعه ونقله وبيعه، وفي الأراضي الزراعيّة اجتُثّت الأشجار من جذورها لتُباع كحطبٍ، في حين تُترك الحقول خاوية بعد أن تزول ملامحها، والأكثر قسوة هو ترك مساحات واسعة من الحقول خاوية بعد طمسِ ملامحها.

ضباط الأسد لم يكتفوا بقطع الأشجار فحسب، بل ضمّنوا الأراضي والمناطق الزراعية لعناصر مقربة منهم بمبالغ مالية، في مشهدٍ أقرب للتجارة السوداء، بحقّ الأملاك الخاصة، ومع اقتلاع الأشجار واختفاء التخوم، أصبح من السهل اعتبار تلك المساحات بالنسبة للضباط أرضا واحدة، تُحرث طولاً وعرضاً بلا أيّ اعتبار لحدود الجيران، فهكذا زرع المتنفذون الأرض على أنها ملك لهم، وغالباً لمصالح الماشية، لتبقى ذاكرة المزارعين هي الوسيلة الوحيدة لحفظ معالم حقولهم وحدودها.

الخرائط السرية” – ذاكرة المزارع كوثيقة

بعد سقوط نظام الأسد في نهاية عام 2024، بدأ مزارعون بالعودة إلى مناطقهم بعد سنوات من التهجير القسري منها ريف إدلب الجنوبي، ليُصدموا من هول المشهد: “منازل مدمرة، أراضٍ مجرّفة، وحدود اختفت معالمها وابتلعها عبث قوات النظام”، إلا أنّ الذاكرة لا تخون صاحبها مهما مرّ من سنوات الغياب، فالخرائط السريّة التي حملها المزارع في ذاكرته لا تُرسم بالحبر بل بذكريات الماضي.

فالمزارع يعرف أرضه من علاماتٍ صغيرة قد لا يلتفت إليها غيره: صخرة كبيرة في طرف الحقل، ساقية ماء كانت تجري شتاءً، خط حجارة وضعه الأجداد لتحديد التخوم، أو حتى ظل شجرةٍ معمّرة كانت مأوى لسنوات عمل طويلة، هذه التفاصيل البسيطة هي التي تمنحه القدرة على التعرف إلى أرضه، حتى بعد عقدٍ من الغياب.

يقول الحاج مصطفى الموسى، البالغ من العمر قرابة الثمانين عاماً والذي ينحدر من ريف إدلب الجنوبي لموقع تلفزيون سوريا، إنّ العودة بعد سنوات التهجير لم تكن يسيرة، فالمعالم الطبيعية التي طالما دلّته على أرضه اختفت أو تلاشت بفعل اقتلاع الأشجار وطمس الحدود.

ويضيف: “معظم ما كنا نعتمد عليه ذهب، لكن الفلّاح يعرف أرضه كما يعرف ملامح وجهه نتذكر الوادي الصغير الذي يمر بين الحقول، أو شجرة التين العتيقة، أو حتى صخرة كان يضعها أجدادنا علامة للحد”. هذه الذكريات بالنسبة له بمثابة “خرائط سرّية” لم تغب عن ذهنه، رغم محاولات عناصر النظام المخلوع خلطَ التخوم وحرث الأرض طولاً وعرضاً حتى تذوب الحدود بين الجيران.

حجر المساح ومعنى العودة

يستفيض الحاج مصطفى وهو يستذكر علامة أخرى أكثر رسوخاً في ذاكرة الفلاحين: “حجر المساح”، تلك النقطةُ الحجريّة التي عرفها الفلاحون منذ زمن الاحتلال الفرنسي، واعتمدوها لضبط التخوم بدقة، إذ يُحسب منها الطول والعرض ويُعاد من خلالها تثبيت ملكيات الناس، يشرح بحسرة: “الأشجار قد تُقطع، والعلامات الطبيعية قد تختفي، لكن الحجر يبقى، ومنه يعرف كل شخص ما له وما عليه”، ثم يضيف بنبرة وجدانية: “صحيح أنني عدت لأجد الزيتون والتين والعنب والقمح قد ذهب، لكن المهم أنني عدت، قد لا أذوق ثمار الأشجار التي سأزرعها اليوم، لكن سيأكل منها أولادي وأحفادي من بعدي، وهذا يكفيني”.

الأرض التي تغيّرت

لم تعد الحقول التي عرفها المزارعون قبل سنوات هي ذاتها بعد عودتهم، فقد واجههم مشهد قاسٍ: أراضٍ مسطّحة بفعل التجريف، وجذوع أشجارٍ مقتلعة لم يبقَ منها سوى بقايا متفحمة، وحدود طُمست حتى صار من العسير التفريق بين أرضٍ وأخرى، البعض اكتشف أنّ أرضه اندمجت مع جاره بسبب تآكل التخوم، وآخرون فوجئوا بأن أراضيهم زُرعت كقطعة واحدة على يد غرباء استغلوها لسنوات.

تبدّلت حتى شبكات المياه والري التي كانت تحدّد مسارات الزراعة؛ بعضها جفّ بفعل الإهمال، وبعضها الآخر حُوّل إلى اتجاهات جديدة، أمام هذا الخراب، وجد المزارع نفسه أمام سؤال صعب: كيف يمكن أن يتعرّف إلى أرضه وقد فقدت كل معالمها؟.

فبعد سنوات الغياب، لم يجد محمد الحاج شحود من ريف معرة النعمان الشرقي أي ملامح تُذكّره بأرضه، فالمشاهد التي طالما ارتبطت بذاكرته – البساتين الخضراء، أصوات العصافير، وبيوت الطين التي كانت تؤنس المزارعين – غابت بالكامل، يقول لموقع تلفزيون سوريا: “رجعت بعد التحرير، ما قدرت أعرف لا بيتي ولا أرضي، كل شي تبدّل البساتين راحت، وحتى آبار المياه ردموها حتى ما نزرع من جديد، مو بس اقتلعوا الشجر، كأنو بدّن يمحوا الحياة كلها”.

ويضيف بصوت يغلب عليه الأسى ممزوجاً بالأمل: “صحيح الأرض اليوم خراب، بس رح نرجع ونشجّرها ونزرعها من جديد”.

ما إن يخطو المزارع نحو أرضه بعد سنوات الغياب حتى يكتشف أن المشهد لا يتوقف عند فقدان الأشجار أو اندثار التخوم، بل أمامه معركة جديدة: معركة الأوراق والملكية، فالأرض التي يعرفها قلبه لا تكفي وحدها لإثبات الحق أمام القانون، والذاكرة مهما كانت حاضرة لا تعوّض عن سندٍ رسمي أو وثيقة ضاعت في سنوات الحرب، وكثير من المزارعين وجدوا أن أراضيهم بيعت بطرق ملتوية أو ضُمّنت لضباط النظام ىالمخلوع وعناصره الموالية، وبعضهم عاد ليجد سند الملكية باسم آخر لا يعرفه.

قال المزارع رضا الرشيد (65 عاماً) من بلدة كفرباسين في ريف إدلب الجنوبي لموقع تلفزيون سوريا: “بعد التحرير، كان المشهد محزن جداً… الأرض عادت بعلية وسليخ بلا أي معالم، نحن كعائلة كنا نملك 30 دونماً من الأشجار المثمرة، لكن بعد اقتلاع الأشجار وحرث الأرض طولاً وعرضاً، لم يبقَ أي أثر يحدد التخوم أو يقسّم الأراضي بيني وبين إخوتي. حتى الصخور والجذوع التي كنا نعتمدها كعلامات لم تعد موجودة، معظم الأهالي في قريتنا اضطروا للبدء من جديد، وكأنهم يعيدون تقسيم الأرض لأول مرة بعد أن طُمست ملامحها بالكامل”.

هكذا يتحوّل الحق في الأرض إلى صراع قانوني معقّد، يضع الفلاح في مواجهة مؤسسات غائبة أو عاجزة، ويهدد بتحويل “الخرائط السرية” إلى مجرد شهادة عاطفية بلا قوة قانونية.

عاد المزارع الستيني محمد سرجاوي “أبو حسين” إلى أرضه في بلدة معرشورين شرقي معرة النعمان بعد سنوات من النزوح، ليجدها وقد تحولت إلى مساحة مجهولة بلا ملامح، يصف لموقع تلفزيون سوريا صدمته قائلاً: “الأشجار كلها مقطوعة ما عدنا نعرف أرضنا من أرض جارنا ولا حتى من أرض أخينا، بالنسبة إلي، لو ما كان معي رجل مسن من البلدة يعرف بعض العلامات، ما كنت عرفت أرضي أبداً، كانت كلها زيتون، اليوم ما بقيت ولا شجرة”.

يتوقف قليلاً ثم يضيف: “الحدود اختفت، الخرائط السرية اللي كنا نعرفها من صخرة أو ساقية أو مَعْلَم بسيط كلها انمحت، تم حرث الأراضي طولاً وعرضاً حتى تداخلت مع بعضها وصار الواحد غريب بأرضه”.

يروي سرجاوي معاناته بعد العودة: “رجعت ما لقيت حتى سقف بيتي… فكيف بدي أزرع؟ بقيت أكثر من نصف شهر بلا شهية للأكل من حزني على أشجاري اللي راحت، العدالة الحقيقية بالنسبة إلنا إنو نشوف المجرمين يتحاسبوا، أنا بلغت 60 سنة وما بعرف إذا رح أقدر أرجّع الأرض وأزرعها من جديد”.

ويشير إلى عائق إضافي واجهه المزارعون: “الأرض مليانة ألغام… مكان أرضي وأراضي غيري كلها مفخخة، لولا جهود الدفاع المدني اللي أزال الألغام، ما كان حدا قدر يطأ الأرض من جديد”.

الصراع الجديد: ملكية وحماية

يرى الحقوقي محمود باكير في حديثه لموقع تلفزيون سوريا أنّ التوفيق بين العدالة القانونية (القائمة على الوثائق والسجلات الرسميّة) والعدالةِ الإنسانية (المرتبطة بذاكرة المزارعين ومعالم أراضيهم) يحتاج إلى اعتماد جميع وسائل الإثبات الممكنة، مع ترتيب الأولويات بشكل يضمن عدم ضياع الحقوق.

يوضح باكير: “الأصل أن يتم اللجوء أولاً إلى السجلات العقاريّة الرسمية، وفي حال فُقدانها، يمكن الرجوع إلى وثائق البلديات ودوائر المساحة، وإن تعذّر ذلك، تُستخدم الأوراق الشخصية المتوفرة لدى الأهالي، مثل نسخ الأحكام القضائية أو العقود المُبرمة أمام كُتّاب العدل، وحتى العقود العادية الموقعة أو صورها، والتي يمكن اعتمادها كمبدأ ثبوت بالكتابة”.

ويضيف: “إذا فُقدت جميع هذه الوسائل، عندها يمكن الاستناد إلى الذاكرة الشخصية والمعالم الطبيعية القديمة، إضافةً إلى شهادات الجوار وأهالي المنطقة، شرط أن يتم ذلك عبر لجانٍ قضائيةٍ ورسميّةٍ مختصة، وبآليةٍ قانونية واضحة، لضمان مصداقيةِ هذه الشهادات وصيانتها من التلاعب”.
ويشدد باكير على ضرورة إصدار تشريعات جديدة تنظّم عملَ هذه اللجان وتمنحها صلاحيةَ التحقيق المحلي الجاد: “هكذا فقط يمكن التثبُّت من الملكياتِ بطرقٍ عادلةٍ وشرعيّة، تُحافظ على الحقوقِ وتمنعُ نزاعات مستقبلية بين الأهالي”.

يعود المشهد إلى المزارع مصطفى الموسى، واقفاً على أطراف أرضه التي غيّرت الحرب معالمها، ينظر حوله فلا يرى سوى مساحات مفتوحة بلا حدود، وجذوعاً يابسة تذكّره بأشجارٍ كانت يومًا علامات أمان، في يده لا يحمل إلا بقايا وثائق وبعض أوراق ملكية، ويحمل ذاكرةً أصرّت على حفظ تفاصيل الأرض كأنها وثيقة سرية لا تُمحى.

لكن يبقى السؤال مفتوحاً: هل تكفي الذاكرة والخرائط السرية وحدها لإعادة الحياة إلى هذه الحقول، أم أنّ غياب العدالة سيجعلها مجرد حكايات تنتقل بين الأجيال؟

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى