
لم يكن العدوان الإسرائيلي الذي استهدف قيادات حركة حماس في قلب العاصمة القطرية حادثة عابرة أو طارئة في سياق حرب غزة. بل جاء هذا التطور كترجمة صريحة للتحول العميق الذي أصاب الذهنية الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر، اليوم الذي غيّر موازين الحسابات الأمنية والسياسية لتل أبيب، وفتح الباب أمام نهج جديد يتجاوز كل الاعتبارات التي كانت تضبط السلوك الإسرائيلي لعقود طويلة.
فإسرائيل، التي كانت تفصل سابقاً بين ساحات الاشتباك وحدودها، وبين الدول المتصالحة معها وتلك التي تناصبها العداء، أسقطت اليوم هذا الحاجز تماماً، وأصبحت تتعامل مع المنطقة كوحدة مستباحة يمكن ضربها متى اقتضت مصالحها ذلك.
اللافت أن الاعتداء على الدوحة لم يستهدف فقط وفد حركة حماس الذي كان في قلب مفاوضات التهدئة، ولا الوساطة القطرية التي حاولت منذ بداية الحرب أن تفتح كوة في جدار الصراع. بل إن الضربة حملت رسالة رمزية إلى قطر نفسها، الدولة الصغيرة التي نجحت خلال العقدين الأخيرين في فرض حضورها على الساحة الدولية كوسيط وراعٍ للتسويات وكلاعب يتجاوز حجمه الجغرافي. فجأة، وجدت الدوحة نفسها في قلب النزاع، لتكتشف أن أدواتها الناعمة، من استثماراتها الإعلامية والرياضية إلى قوتها الدبلوماسية، عاجزة عن تحييدها عن نيران الصراع عندما يقرر الطرف الإسرائيلي إدراجها في بنك أهدافه.
إنها محاولة لإعادة إنتاج “سايكس – بيكو” جديد ولكن بيد إسرائيلية هذه المرة، حيث لا تكتفي تل أبيب بفرض وجودها على حدود فلسطين التاريخية، بل تمتد يدها لتطول الخليج وشمال أفريقيا وشرق المتوسط.
لم يشفع لقطر أنها واحدة من أبرز حلفاء الولايات المتحدة في الخليج، ولا أنها تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة، قاعدة العديد، التي شكلت لعقود ركيزة أساسية في الاستراتيجية الدفاعية لأمن الخليج. كل هذه العناصر لم توفر للدوحة سياقاً ردعياً في وجه إسرائيل المتوحشة على العكس، كشفت الضربة أن التحالفات التقليدية لم تعد تشكل ضمانة، وأن إسرائيل، في منطقها الجديد، لا تتورع عن ضرب أي طرف إذا اقتضت مصالحها ذلك، حتى لو كان منخرطاً في ترتيبات التطبيع أو الوساطة.
والرسالة التي وجهتها تل أبيب عبر قصفها للدوحة واضحة: لا مكان لوسطاء، ولا وزن لاتفاقيات، ولا حصانة لدول تحاول أن تقف في الوسط. فمن الضاحية الجنوبية في بيروت، حيث اغتيل صالح العاروري، إلى قلب طهران باغتيال إسماعيل هنية، وصولاً إلى الدوحة لمحاولة اغتيال خليل الحية، تتعامل إسرائيل مع الساحات كلها بالمعيار نفسه. هذا ينسف الفكرة السائدة عن إمكانية التمايز في التعاطي مع إسرائيل، ويعني أن “إسرائيل الكبرى” لم تعد مشروعاً جغرافياً توسعياً فقط، بل مشروعاً أمنياً وهيكلياً يرمي إلى إعادة صياغة المنطقة بكاملها.
وليس خافياً أن هذا التحول يعكس عقلية استعمارية تعود بنا إلى المراحل الكلاسيكية من التاريخ الحديث. إسرائيل لا تسعى فقط إلى ردع خصومها، بل إلى فرض منظومة هيمنة كاملة: السيطرة على طرق الطاقة والغاز، التحكم بالممرات المائية، فرض مناطق عازلة خالية من السكان، وتفكيك الدول المركزية عبر اللعب على تناقضات مكوناتها الاجتماعية والطائفية.
إنها محاولة لإعادة إنتاج “سايكس – بيكو” جديد ولكن بيد إسرائيلية هذه المرة، حيث لا تكتفي تل أبيب بفرض وجودها على حدود فلسطين التاريخية، بل تمتد يدها لتطول الخليج وشمال أفريقيا وشرق المتوسط.
في هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أن الاستهداف الإسرائيلي للدوحة ترافق مع اعتداءات في أربع دول عربية أخرى خلال 24 ساعة فقط: لبنان، سوريا، تونس، وفلسطين. المشهد يوحي بأننا أمام استراتيجية متكاملة لتوسيع نطاق الحرب، لا أمام عمليات متفرقة. الأخطر أن إسرائيل لم تتردد في قصف وفود تفاوضية، وهو ما يعني عملياً أنها أسقطت فكرة المفاوضات كآلية للحل. فتل أبيب لا ترى في التفاوض سوى فرصة لإعادة التموضع أو كسب الوقت، لكنها في جوهرها لا تؤمن بالتسويات، بل تفضّل الحسم العسكري والفرض بالقوة.
ومن زاوية لبنانية، فإن الضربة على قطر تعمّق النقاش حول مصير سلاح حزب الله. فأنصار الإبقاء على هذا السلاح سيجدون في ما جرى دليلاً إضافياً على أن الحياد لا يحمي أحداً، وأن إسرائيل لا تعترف بتمييز بين دولة مقاومة ودولة مطبّعة. وإذا كانت الدوحة، بكل تحالفاتها وعلاقاتها، لم تنجُ من العدوان، فكيف يمكن للبنان أن يعوّل على أي اتفاقيات أو تفاهمات لتجنيبه الاستهداف؟ هذا المنطق يعزز موقف الفريق المؤيد للإبقاء على معادلة “الجيش والشعب والمقاومة”، ويجعل أي محاولة داخلية لانتزاع سلاح الحزب أكثر تعقيداً.
لكن التبعات لا تقف عند لبنان. فالخطر يتوسع ليشمل كامل البنية الإقليمية. إسرائيل لا تريد فقط إخضاع حماس أو تحجيم النفوذ الإيراني، بل تريد استسلاماً عربياً شاملاً. وهذا يعني التحكم بمسارات السياسة والاقتصاد والثروات في العالم العربي. مشاريع التهجير التي يُتداول بها – من نقل سكان غزة إلى مصر، وأهل الضفة إلى الأردن، وإفراغ شريط حدودي من لبنان – ليست سوى خطوات في مشروع أكبر يرمي إلى إعادة تشكيل الخريطة السكانية للمنطقة. وبالتوازي، يجري الضغط على سوريا لتقسيمها عملياً، وعلى تركيا عبر الورقة الكردية تارة، وعبر تحفيز المعارضة ثانياً، وعلى الخليج عبر تهديدات مباشرة أو غير مباشرة لأمنه الطاقوي.
إسرائيل تتحرك كقوة استعمارية جديدة، والعالم العربي مهدد في وجوده وبنيته. وإذا لم تُبادر الدول العربية إلى بناء استراتيجية مواجهة حقيقية، فإننا سنكون أمام مرحلة عنوانها “إسرائيل الكبرى” التي لا تقوم على الاحتلال الجغرافي وحده.
هذا الواقع يضع العالم العربي أمام لحظة مفصلية. فكل الكيانات التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى تبدو اليوم مهددة. إسرائيل تتصرف كقوة إمبريالية، تتجاوز القوانين الدولية، وتفرض وقائع بالقوة. والاعتماد على المظلات الأميركية أو الغربية بات خياراً شديد الهشاشة، بعدما أثبتت واشنطن أنها غير قادرة أو غير راغبة في كبح الجموح الإسرائيلي.
حتى الأوروبيون الذين طالما رفعوا شعار القانون الدولي ظهروا عاجزين عن فعل شيء أمام الانتهاكات المتكررة، وأمام هذا الواقع، لم يعد مجدياً الاكتفاء ببيانات الإدانة أو التحذير. المطلوب مقاربة جديدة جذرية. ربما آن الأوان لطرح فكرة قمة عربية أو خليجية طارئة تعيد النظر في مجمل السياسات، من ملف التطبيع إلى بناء منظومات دفاع مشتركة.
والمطلوب التفكير في أدوات ردع حقيقية، وإلا فإن العالم العربي سيجد نفسه، دولة بعد أخرى، تحت رحمة المشروع الإسرائيلي. فتل أبيب لا تكتفي بالضربات الجوية، بل تسعى أيضاً إلى خلق بؤر توتر داخلية، عبر تغذية الصراعات الطائفية والعرقية، وتشجيع النزعات الانفصالية، وزرع الفوضى كوسيلة للهيمنة.
إن ما جرى في الدوحة يجب أن يُقرأ على أنه إعلان صريح بأن إسرائيل لم تعد تعترف بأي حصانة أو أي دور وسطي. الاستهداف لم يكن لقطر كدولة فقط، بل لدورها ومعناها ورمزيتها. إنه استهداف لفكرة أن دولة تستطيع أن تلعب دور الوسيط النزيه. والرسالة الأعمق أن إسرائيل ليست معنية بتسويات، بل بحلول صفرية تفرض فيها استسلاماً كاملاً على كل الأطراف.
في المحصلة، المشهد الإقليمي أمام لحظة فارقة. إسرائيل تتحرك كقوة استعمارية جديدة، والعالم العربي مهدد في وجوده وبنيته. وإذا لم تُبادر الدول العربية إلى بناء استراتيجية مواجهة حقيقية، فإننا سنكون أمام مرحلة عنوانها “إسرائيل الكبرى” التي لا تقوم على الاحتلال الجغرافي وحده، بل على الهيمنة الكاملة على مستقبل المنطقة سياسياً واقتصادياً وثقافياً. ولعل اللحظة الراهنة تفرض على العواصم العربية أن تتجاوز حساباتها الضيقة، وأن تدرك أن كل يوم تأخير يمنح إسرائيل فرصة إضافية لترسيخ وقائع يصعب تغييرها لاحقاً.
المصدر: تلفزيون سوريا