
إذا كانت أميركا قد ضُرِبت في عذريتها الأمنية قبل 24 عامًا، بحسب وصف أغلب المحللين، حين تحدّاها تنظيم “القاعدة” عن طريق إرسال تلك المجموعة إلى عقر الدار الأميركية لتضربها في أهم معالم قوتها الاقتصادية والأمنية، فإنها إلى يومنا هذا، وبعد نحو ربع قرن على الضربة في منطقة “زيرو ون”، لم تجب عن السؤال الأهم، والمتعلّق بالسبب الذي دفع تنظيم “القاعدة” لاستهدافها هي بالتحديد من بين هذا “الغرب الكافر” بحسب معتقدات التنظيم، لتتّخذ أميركا وحلفها الغربي من شعار محاربة الإرهاب مبررًا وذريعة لاحتلال دول وقتل شعوب وإسقاط أنظمة في العراق وأفغانستان.
لا شك في أنّ الشعوب العربية والإسلامية، وبعد مرور هذا الزمن على 11 من سبتمبر، لم تصبح أقلّ بغضًا وكرهًا للسياسة الأميركية. فرغم كل المحاولات المستميتة من قبل أضخم إمبراطورية إعلامية أميركية لتغيير رؤية العرب والمسلمين لأميركا، فإن الفشل في تحقيق الهدف الذي جنّدت له الإدارة الأميركية وحلفاؤها كل القدرات والقوة، كان من نصيب أميركا وسياستها. تتكرر الذرائع والمسوغات اليوم في المشهد العربي الذي يتابع مواقف وسياسة أميركية في المنطقة، وتحديدًا دعمها غير المحدود لجرائم الإبادة الجماعية في غزة، والدفاع عن إرهاب المؤسسة الصهيونية في غزة والضفة والمنطقة.
تسعى إسرائيل لتنفيذ التطهير العرقي والإبادة الجماعية بدعم أميركي للفكرة كما طرحها ترمب برؤية “ريفيرا غزة”، وأن سكانها يستحقون حياة أفضل، لكن بعيدًا عنها وبخروجهم من وطنهم.
نعم، استطاعت أميركا أن تطوّع أنظمة وحكومات وجماعات في حربها على ما سُمّي “الإرهاب”، وأخذت إسرائيل وحكوماتها في صفها، وركلت أنظمة عربية كانت تُعَدّ من أقرب الحلفاء، وأسقطت حكم طالبان، وبثّت الرعب والخوف لدى الكثير من الحكام، وابتزّت دولًا أخرى لتكون جنودًا في حربها، واحتلّت أفغانستان والعراق بأطنان من الكذب المفبرك، الذي ادّعت معه امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل.
وباسم تلك “الاحتمالية” اختطفت الإدارات الأميركية المتعاقبة مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والاتزان في المصالح المتبادلة، وحوّلت القانون الدولي والأمم المتحدة إلى رهينة مشلولة الإرادة بحجة 11 أيلول. وبنفس الحجة والذريعة الإسرائيلية في ممارسة الإرهاب على الشعب الفلسطيني، استطاعت الإدارة الأميركية بزعامة ترمب تذكير العرب والعالم كله أنّ اتخاذ لعبة المعايير المزدوجة وفرضها بغطرسة القوة لحماية إرهاب مسموح به، إن كان إسرائيليًا أو أميركياً أو طغيانياً يخدم الاثنين معًا.
وإذا كان كل هذا قد حققته أميركا لنفسها بعد 11 من سبتمبر 2001، واستعاد ترمب ترويج “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” بعد ربع قرن، إلا أنها بقيت عاجزة عن الإجابة عن التساؤل الأهم في أسباب هذا العداء المتصاعد لسياستها في أكثر من مكان حول العالم. وعدم الإجابة عن هذا التساؤل لن يجعلها أقلّ كرهًا عند شعوب المنطقة التي تشاهد قتل الفلسطينيين بسلاح أميركي، واستباحة كرامتهم بقوة دبابات الاحتلال الإسرائيلي وطائرات أميركية، وبسياسة أميركية تحمي هذا الإرهاب حول العالم، وتعاقب لأجله دولًا وقادة وشخصيات ومنظمات دولية. فالأبراج السكنية المدنية التي تتهاوى بفعل قنابل أميركية تُصيب آلاف الضحايا الأبرياء، وتذكّر عشرات المرات بـ11 أيلول الأميركي وتفوقه فظاعة، إذ تسعى إسرائيل لتنفيذ التطهير العرقي والإبادة الجماعية بدعم أميركي للفكرة كما طرحها ترمب برؤية “ريفيرا غزة”، وأن سكانها يستحقون حياة أفضل، لكن بعيدًا عنها وبخروجهم من وطنهم.
هذه الثقافة، وهذا الفكر الاستعلائي الأميركي المبرّر للإرهاب الإسرائيلي، إذا لم نقل الديني، ومن خلال تغليف الإنسان الفلسطيني والعربي بالتخلّف والجهل والتأخر، يُشير إلى بحث آخر لنا عن “طريقة أفضل للحياة” يراها قاتلنا ومستعمرنا ومحتلّنا بهذه الصورة الهمجية عبر استخدام أفكار القوة والهيمنة وتطبيقها بجرائم إبادة جماعية. وهي تخلق بالضرورة مناخًا دفاعيًا يركّز فيه الإنسان الفلسطيني والعربي على آليات دفاعية تقيه مثل هذا الهجوم الكاسح الذي يتعرض له منذ عقود.
وأية محاولة للإجابة عن سؤال بمثل هذا الحجم، لمبرّر الإرهاب في أيلول 2001، ولإرهاب صهيوني تئنّ تحت وطأته غزة منذ عامين، دون التطرّق إلى ما لدى الولايات المتحدة بزعامة ترمب من فكر حاطّ من قدر وقيمة الآخر، تبقى محاولة فاشلة، إذا لم نقل إنها تعزز من التشويه المتعمّد للإنسان العربي، ودفعه نحو خيارات قد لا تعجب الآخر الغربي، ولا حتى من يطرح نيابة عنه مشاريعه للتغيير، تضمن في نهاية المطاف تفوقًا فاشيًا للصهيونية على المنطقة العربية.
طالما أن “أخلاقيات” أميركا تسمح وتبارك ممارسات صهيونية فاشية، من أيلول وأكتوبر إلى شهور وأيام تراكم عقودًا، فهي لن تستطيع بكل تأكيد أن تمنع الآخرين من قراءة أخلاقياتهم وفق مصالحهم هم، لا وفق مصالحها هي.
قيل بعد هجمات 11 أيلول، من بعض المنظرين، عن ضرورة الاستجابة للمطالب الأميركية، لأن 11 سبتمبر هي الأصل والباقي فروع. نعم، يمكن الاعتراف بالتحليل المنطقي القائل بأن 11 أيلول/سبتمبر شكّل لطمة حقيقية للقراءة الأميركية لذاتها، ومثّل حالة من الرعب والخوف من الآخر الإسلامي والعربي. وكما يقال اليوم إن السابع من أكتوبر 2023 هو الأصل، وليس النكبة والاحتلال وجرائم الاستيطان والعدوان والتهويد، رغم كل الشكوك في هذه القراءة التي أثيرت، وتسهيل اللطمة، إلا أنه في المقابل تبقى دروساً وعبراً لم تتوقف عندها لا الثقافة ولا السياسة الأميركية. فإسرائيل بقيادة حكومة فاشية تتلقى كل الدعم والتأييد الأميركي، وهي التي تملك أدوات القتل والتدمير، وتهدد العرب بأسلحة نووية وبإقامة إسرائيل الكبرى، وترتكب جرائم حرب وإبادة وضد الإنسانية، وسط صمت ومباركة أميركية، ونفاق واضح دولي لمثل هذه الجرائم، ولدعوات تبث الحقد والكراهية في دولة تدّعي العلمانية، بينما هي في الحقيقة دولة توراتية وتلمودية قائمة على فكر انتفاء قيمة الآخر، في مقابل قيمة اليهودي ونقاوة “الدولة” التوراتية من “شوائب العرب”، مسيحيين ومسلمين ودروزا وشركسا وغيرهم.
أخيرًا، طالما أن “أخلاقيات” أميركا تسمح وتبارك ممارسات صهيونية فاشية، من أيلول وأكتوبر إلى شهور وأيام تراكم عقودًا، فهي لن تستطيع بكل تأكيد أن تمنع الآخرين من قراءة أخلاقياتهم وفق مصالحهم هم، لا وفق مصالحها هي. فروما كانت أيضًا إمبراطورية كبيرة وقوية، ومع ذلك انهارت واندثرت، ولم يبقَ منها إلا أطلال يستمتع السائح بالنظر إليها.
المصدر: تلفزيون سوريا