
في العام 2015 وبعد أن بدأ يلوح في الأفق أن النظام السوري البائد قد أصبح قاب قوسين من الانهيار ومن أجل احتواء الوضع في سورية تدخلت الدول الكبرى عبر مجلس الأمن لوضع إطار سياسي لعملية انتقال السلطة في سورية بطريقة تؤمن عدم خروج الوضع عن السيطرة عبر إدخال الامم المتحدة في تلك العملية كراعية تحت مظلة مجلس الأمن .
وفي 18 كانون الأول 2015 صدر القرار 2254 بينما كان الرئيس المخلوع بشار الأسد وحليفته ايران قد توسلا لدى الروس للتدخل إنقاذا لموقف النظام السوري المتدهور وبالتالي بدأ سلاح الجو الروسي بقصف قوات المعارضة اعتبارا من ايلول 2015 . أي قبل شهرين فقط تقريبا من صدور القرار 2254 ولم يكن واضحا في ذلك الوقت فيما إذا كان التدخل الروسي سيكون قادرا على قلب ميزان القوى لصالح النظام , وفي الواقع فقد احتاج الأمرلأكثر من عام بعد التدخل الروسي من أجل انقلاب موازين القوى لصالح النظام بسقوط حلب اواخر العام 2016 .
بعد سقوط حلب أصبح واضحا أن المعارضة المسلحة قد أصبحت في طور الانحسار وأن خطر سقوط النظام لم يعد ماثلا ولذلك شهدنا محاولة أممية لتمييع تنفيذ القرار 2254 وإدخاله بمسارات عبثية مثل فكرة السلال التي تفرعت عنها اللجنة الدستورية في حين أن مجرد مناقشة الدستور كان إجراء مناقضا على طول الخط للقرار 2254 الذي ينص بوضوح على أن الخطوة الأولى للحل تكمن في إنشاء حكومة مؤقتة من المعارضة والنظام تمتلك صلاحيات كاملة بمعنى سحب السلطة من النظام السوري بصورة تامة .
لكن ذلك لم يكن مهما للدول الكبرى التي اطمأنت لبقاء النظام ووضعت الملف السوري في الثلاجة بعهدة ديمستورا ثم غير بيدرسون .
فجأة وبعد سقوط النظام بطريقة مفاجئة وغير محسوبة في 8 كانون الأول 2024 تذكر الجميع القرار 2254 بينما كانت دمشق قد سقطت بيد إدارة ردع العدوان لكن الوقت كان متأخرا , فبشار الأسد قد هرب وهرب معه كل أركان نظامه وانهار ذلك النظام كما ينهار بناء كرتوني بصورة تامة .
في العقبة حاولت الدول الكبرى استدراك الأمر باستدعاء غير بيدرسون وبقايا الائتلاف وطرح العودة للقرار الأممي 2254 أي سحب السلطة بطريقة ناعمة من يد هيئة تحرير الشام , لكن ذلك سرعان ماظهر بأنه محاولة غير واقعية على الاطلاق ومنذ ذلك الوقت بدأت الدول الكبرى خاصة الولايات المتحدة بمحاولة احتواء النظام الجديد بدلا من العودة للقرار 2254 التي لم تعد ذات معنى .
حسنا إذا كان الأمر كذلك فلماذا يعود اليوم السيد غير بيدرسون ليذكرنا بالقرار 2254 بعد أن مات ودفن بدون مراسم دفن الموتى .
الحقيقة أن الدول الكبرى فضلت عدم رمي القرار 2254 في سلة المهملات , والاحتفاظ به كأداة سياسية من باب الاحتياط مرفوعا على الرف , بحيث يمكن إعادة إحيائه وبعثه من جديد في حال تدهور وضع النظام الجديد في سورية .
وحين وقعت أحداث الساحل ثم أحداث السويداء وبدأت قسد تظهر تفلتها من اتفاق آذار وتستعيد مطلبها في اقليم شبه مستقل بجيش مستقل لايتبع دمشق سوى من حيث الشكل , وحين تدخلت اسرائيل في الوضع الداخلي السوري ودعمت الحركة الانفصالية في السويداء وفرضت انسحاب الجيش السوري بدأت تلوح في الأفق فكرة بعث القرار 2254 كأداة سياسية يمكن من خلالها هندسة الوضع في سورية واحتواءه إذا سارت الأمور باتجاه تدهور وضع النظام الجديد .
هذا في الحقيقة هو الأساس الموضوعي لبعث القرار 2254 من قبره من جديد .
أي وضعه كإطار سياسي لجمع كل من قسد والهجري وفلول النظام في الساحل وربما استدعاء بقايا الائتلاف على طاولة واحدة يمكن أن ينبثق عنها مايسمى بمؤتمر وطني باشراف أممي مباشر يقود لتقاسم السلطة بصورة فدراليات أو مايشبه ذلك .
مثل ذلك السيناريو مازال بعيدا في الواقع , لكن الدول الكبرى لاتلعب في السياسة بخط واحد بل بعدة خطوط بعضها تحتفظ به كاحتياط تحت الطاولة وبعضها الآخر تلعب به فوق الطاولة .
تدرك القوى الانفصالية مغزى عودة غيربدرسون وتذكيره بالقرار 2254 وربما يكسبها ذلك شيئا من الأمل في تحقيق أحلامها غير الواقعية , وبالتالي فمن المنطقي تماما أن تسعى للتقاطع مع فكرة بعث القرار 2254 واعلان التمسك بذلك القرار .
لكن من غير المفهوم وغير المنطقي أن تنزلق بعض القوى الوطنية الديمقراطية التي يفترض أن تتمتع بوعي كاف لتدرك أن الأساس الوحيد لاستعادة القرار 2254 في الوضع السوري الحالي هو تكريس الحالة التقسيمية لسورية والاعتراف بإمارة الهجري وروج آفا قسد وحالة مماثلة في الساحل يجري العمل لانتاجها سياسيا بصيغة مجلس سياسي أو عسكري .
وهناك فكرة مركزية ترتبط باستعادة تفعيل القرار 2254 لتكريس الحالة التقسيمية لسورية وهي الاعتراف الواقعي بالكيانات الانفصالية في الجزيرة السورية والسويداء والساحل ضمن مظلة مايمكن تسميته بالمؤتمر الوطني العام .
والمؤتمر الوطني العام في ظل الانقسامات الراهنة لايمكن أن يخرج عن إطار جمع قيادات قسد والهجري وفلول النظام وربما بقايا الائتلاف كممثل لما تبقى من سورية باعتبار أن من الصعب جدا انخراط الحكومة السورية الحالية بهكذا مشروع يكرس تقسيم سورية .
أكاد أجزم بوجود تحضير لهكذا سيناريو وراء الستار لكن ذلك لن يكتب له النجاح قط , لسبب بسيط أن الشعب السوري في غالبيته الساحقة مستعد لمواجهته وتقديم مليون شهيد من أجل إحباطه , الشعب السوري لن يقبل بعبودية جديدة وبتقسيم بلاده مهما كلف الثمن .