بيت على الظهر…عندما يتحوّل “المنزل المتنقّل” إلى بقايا نجاة

  فردوس عبد ربه العيسى

فكرة المقال هنا مستوحاة من منشور في “فيسبوك”، لا أتذكر عنوانه بالضبط، وهو بتصرّف “في غزّة النساء يحملن البيوت على ظهورهن”، وخطرت ببالي المقارنة اللاحقة، والتي قد يراها بعضُهم غير منطقية، ولكل منهم أسبابه المتفهّمة. … ففي السياقات المستقرّة سياسياً، كما هو حال غالبية دول الغرب وأميركا وأيضا بعض المناطق الأخرى في العالم ذات الوفرة الاقتصادية، يرتبط المنزل/ البيت المتنقل بالتحرّر والمغامرة، فهو تعبير عن الرفاهية والامتيازات وحرّية التنقل والسفر. أما في قطاع غزّة، حيث الإبادة المستمرّة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فالبيت المتنقل مفهومٌ إجباري يرتبط بالاقتلاع والمحو والتهجير والإبادة الجماعية والمكانية، وبذلك هو حمل ثقيل على الأكتاف والظهور والرؤوس، وهو مأوى هشّ متنقل فوق عرباتٍ تجرّها الحمير، فكيف يمكن أن يقرأ هذا التناقض الصارخ في معنى “البيت”؟

في العالم الغربي وغيره من دول الرفاه، يشتري الناس منازل متنقّلة (كرفانات) بمئات آلاف الدولارات، يحصلون لها على تراخيص خاصة، وهي مجهّزة بخلايا شمسية، أسرّة فاخرة، ومطابخ متنقّلة، تنقلهم هذه البيوت من مدينة إلى جبل، ومن بحر إلى غابة، في تجربة ينظر إليها على أنها تحرر من ضغوطات الحياة، وقضاء وقت جميل مخطّط له مع الأسرة والأصدقاء، وأن التخييم مصدر للسعادة، والراحة النفسية، وتجعل الأفراد على اتصال مع الطبيعة، وتمنحهم فرصة للقيام بأنشطة خارجية كالمشي ومراقبة الطيور وغيرها كما أشار كي ريتشارد.

أما في غزّة فلا يعني البيت المتنقّل المغامرة ولا الرفاهية ولا الاستمتاع بالطبيعة، بل الفرار والهرب، لا عجلات ولا كهرباء، بل عربات تجرّها الحمير في حال توفّرت، فاقتناء الحمار رفاهية، وفي أحيان كثيرة، يصبح جريمة خطرة تتسبّب بإعدام صاحب الحمار. وفي غزّة، أصبح البيت حقيبة تحوي بقايا حياة، وقد تحوي حياة أميتت وحوّلت أشلاء، في غزّة لا ينقل البيت إلى الطبيعة أو الى جوار البحر، بل يحمل على الأجساد المنهكة والجائعة الخائفة والهاربة من الموت والقصف، الى أماكن أيضا هي أماكن موت وخوف يعتقد حامل/ة البيت أنها أماكن أكثر أمنا، وهنا، يفقد “البيت” معناه، ويتحوّل إلى عبء رمزي وجسدي في آن معا.

في ظل انهيار البنية التحتية، أصبحت الحمير وسيلة النقل الأكثر انتشاراً لنقل الناس والأغراض

البيت في أثناء حرب الإبادة في غزّة خيمة في أحسن الأحوال، وتتوفّر فقط للأسر الميسورة، أو للأسر “المحظوظة” التي وصلت إليها توزيعات إنسانية، وفي غالب الأحيان، البيت قطع شادر ممزّق، قطع قماش بالية، قطع كرتون، أعواد خشب، فرشات ممزّقة ومتسخة، وأدوات مطبخ صدئة وملطّخة بالسواد ودخان النار (الشحبار)، وجردل ماء.

في الأدبيات الاجتماعية والنفسية، لا يُرى البيت مجرّد جدران وسقف، بل امتداداً للذات، وركيزةً للهوية، ومصدراً للأمان النفسي والاجتماعي، مستقرّاً وملجأ، وحبا وحرية وذاكرة أجيال، وهو الانتماء، والمجتمع، ومن مكونات الشخصية كما جادلت الباحثة نادرة كفركيان شلهوب. حين يُدمّر البيت ويُقصف يُهدم معه الإحساس بالسيطرة وتُطفأ ذاكرة المكان. والنساء الفلسطينيات يرين البيت امتداداً لأجسادهن الأثنوية، ومكاناً للرعاية والحميمية والأمومة، واقتحامه يعني تدمير هذه الأدوار اليومية لهن بوصفهن راعيات الحياة. وبذلك تتحول البيوت من أماكن أمان إلى ساحات قهر كما ورد في دراسة سابقة أنجزتها “غزو المنازل كاعتداء على الجسد والوطن: النسوية وسياسات الحياة والموت في فلسطين”، فكيف الحال إذا دمّر وتحول إلى أعواد وقطع قماش متنقّلة لا تحمي من الاقتحام والاستباحة، ولا من حرّ الصيف ولا برد الشتاء، في المخيّمات المؤقتة حيث تقام بعض هذه المنازل لإيواء النازحين” والمتنقّلين قسراً”، يفقد “البيت” وظيفته الأساسية: الخصوصيّة، الأمان، الحماية. … والعائلات تتشارك خياما بلا أبواب. النساء يفتقدن أدنى شروط الخصوصية، بعضهن ينمن بلباس الصلاة طوال الليل، وحتى منتجات النظافة الشخصية أصبحت رفاهية شبه منعدمة، مشاهد التشرّد والبيوت المنقولة على الأجساد المنهكة لا تنهي فقط وظيفة المنزل، بل تعيد صياغة العلاقات الاجتماعية والعائلية، العنف، التوتّر، الانهيارات النفسية كلها تخرُج من تحت ركام البيوت، قبل أن تظهر على وجوه النازحين. أما لدى الأطفال، فتدمير المنزل يدمّر الإحساس بالاستقرار والنمو الآمن، وكذلك الكبار، فيصطدمون بعجزٍ مريرٍ عن تأمين الحد الأدنى من الحماية لأطفالهم وأسرهم، في غزّة، هجر أكثر من 1.9 مليون شخص قسرياً منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وبعض العائلات نزحت عشر مرّات أو عشرين مرّة، ما يجعل إمكانية تخيّل الآثار التي ستتركها تجارب الاقتلاع والنزوح المتكرّر غير ممكنة، من دون استقصاء عملي وفعلي ووقف فوري للإبادة.

البيت في أثناء حرب الإبادة في غزّة خيمة في أحسن الأحوال، وتتوفّر فقط للأسر الميسورة، أو للأسر “المحظوظة” التي وصلت إليها توزيعات إنسانية

في ظل انهيار البنية التحتية، أصبحت الحمير وسيلة النقل الأكثر انتشاراً لنقل الناس والأغراض، وبحسب تقرير لصحيفة الغارديان كتبه كميل أحمد، يتم علاج أكثر من سبعة آلاف حمار في غزّة في جزء من جهود إنقاذ “وسائل التنقّل الأخيرة” المتبقية، فهذه الحيوانات” الخطرة” استمدّت خطورتها من خطورة مالكيها الذين هم أيضاً، كما وصفوهم، “حيوانات ولكن بشرية”. لذا أصبحت مستهدفه، بعضها قتل أو نهب، لتكتمل صورة التدمير الحضاري، وتدمير مساحات المعيشة أمام أهالي القطاع والإبادة المكانية كما ناقش ساري حنفي.

وبمقارنة هذه البيوت المتنقلة مع البيوت المتنقلة في الغرب وفي دول الرفاه، حيث يعكس البيت المتنقّل أقصى تعبير عن الحرية، وفي غزّة، يتحول إلى تجربة قسرية، مرهقة، ومذلّة، بيت على عجلات، وآخر على الأكتاف، تجربة تهز الأساس الأخلاقي للعالم المعاصر، وتطرح تساؤلات: من الذي يقرّر من يسكن ويستقر ويترفّه، ومن يُهجر؟ ومن يسكن في المدن الجميلة والنظيفة، ذات الشوارع المعبّدة؟ ومن يدفن تحت المدينة وتحت ركام منزله؟ من يحدّد أن هذا الإنسان حياته لها معنى ولها قيمة ومن حياته لا تستحقّ حتى أن يحزن عليها؟

ما يجعل فقدان البيت في قطاع غزّة ليس مجرّد مأوى مفقود، بل قضية سياسية، وإنسانية، ونفسية، أن التهجير تدمير للمكان، وسرقة للزمان، وتشويه للذات، وصهرٌ للوعي، وتدمير للعلاقات، وانتزاع للكرامة والإنسانية، في عالمٍ غربيٍّ يحتفل بالتنقل مصدراً للرفاه والاستمتاع بالحياة، وممارسة للحرية، مقابل من يتنقلون ليبقوا أحياء، أو في محاولة للبقاء أحياء، هذه المقارنة بين تجربة التنقل باعتبارها سياحة والتنقل باعتباره مأساة وجحيم حياة تضع الجميع أمام استجوابٍ أخلاقي حول العدالة والحق والإنسانية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى