حسين الشرع وحساسية الحديث ذي الصلة

إبراهيم الجبين

                                                                                               

بدت “المقابلة – البودكاست” التي أجراها الإعلامي السوري أنس أزرق مع مواطنه الخبير الاقتصادي، حسين الشرع، في سياق برنامج بودكاست “للحديث صلة” على منصّة “العربي بلس” أكثر تعقيداً من مجرّد حوار بين صحافي وضيف. وعلى غير المتوقع لم يكن من بين حوامل تلك المحاورة الأبرز أن هذا الضيف والد الرجل الذي أطاح نظام بشّار الأسد وحلّ محلّه رئيساً للجمهورية العربية السورية.

لا تصح مشاهدة عابرة لهذا الحوار، إذ تتحوّل في هذه الحالة إلى نوع من دراسة الشخصية، ودراسة الحوار معها، خلفيّاتها وعالمها العتيق الذي أحاط بطلها بتحوّلاته السياسية والاجتماعية الدراماتيكية التي ستقود، في النهاية، إلى لحظة جلوسه على كرسيّه أمام محاوره في دمشق. وقد ظهر الدكتور حسين الشرع كشيخ قادم من ظلمات عهود القهر السوري، من الجولان الذي يبدو اليوم للسوريين كأندلس مفقودة، بينابيعه وتركيبته السكانية المتعدّدة والمعقّدة؛ عرب وتركمان وشركس وسنة ودروز ومسيحيون، فلاحون وبدو ومدنيون، خلطة تبرّر النبرة المنكسرة التي يترقرق بها صوت الشرع كلما كان يذكر الجولان وقريته جيبين وطفولته هناك، مشهد يذكّر بعالم الفلسطيني الذي غاب بعد محو القرى وتغيير أسمائها وتحويلها إلى أطلال مهجورة.

السِّجلّ الضخم الذي طاف عليه الحوار، دوّن فيه الشرع يوميات سورية والسوريين منذ الوحدة مع مصر (1958 – 1961) وما فعلته بهم، ولكن هذه المرّة من وجهة نظر الفقراء والمسحوقين الذي استفادوا منها، فبنت لهم المدارس وأمنت لهم التعليم المجّاني والبنى التحتية ووسائل النقل. كانت نظرة الشرع إلى الوحدة السورية المصرية من نافذة مختلفة عن نوافذ السياسيين، ولعل هذا ما جعله ناصرياً، وما سيضطره إلى دفع ثمن انتمائه ذاك في كل مفاصل حياته.

حزمة من المغامرات كشفها الحوار، مغامرات عاشها “الجولاني الأب” قادته إلى السجن السياسي، وحوّلته إلى فدائي مع الفلسطينيين وتحت قيادة جورج حبش، شريداً، كما قال، عاش تلك المغامرات، ولم يفقد ذاك القالب الذي أرادت له أسرتُه أن يمضي فيه، وكان ذلك عند لحظة نشوء الطبقة الوسطى المتعلمة في سورية، حين تشكّلت النخب الجديدة من بين أبناء العمّال والفلاحين وطلاب المدارس، فوجد نفسه يقاتل من أجل الوحدة العربية، ويقاتل الاحتلال الذي سرق أرضه في فلسطين والجولان، وفي الوقت نفسه، يقاتل كي يحجز لنفسه مكاناً في المشهد، ولم يكن هذا ليتحقّق من دون أن يواصل الأب محاولة استكمال تعليمه، حيث ألقت به الأقدار لاجئاً سياسياً في العراق، حيث سيتكرّر المشهد بعد عشرات السنين بعد ابنه “الرئيس”.

وتعكس قدرة الشرع على تذكّر أدقّ التفاصيل تعلّقه بها، لأنه كان يعد نفسه بسردها ذات يوم، حين كان يعيشها، بمرارة، لحظةً بلحظة؛ أسماء الشخوص وتوقيتات الحوادث، المناخ والجغرافيا، والشركات والعقود وديكورات المكاتب، وربما لو كان قد سُئل عن أرقام الهواتف ولوحات السيارات لأجاب.

لم يكن بلا دلالة أن يختار الابن لنفسه لقب “الجولاني” في فترة تخفّيه وعمله العسكري متعدّد العقائد والانتماءات

تمكّن الحوار، بطرفيه، من تعريف المشاهدين والمشاهدات على البيئة الاجتماعية والسياسية التي خرج منها الشرع الابن، والمؤثّرات التي أحاطت به من قلب منزل أسرته، بدءاً من لهجة الأسرة ومعاناة الوالد وكفاحه من أجل ترك بصمته الخاصة، وكان في وسعه أن يتحوّل إلى موظف عادي، يعبر من المشهد السوري ويخرج منه كما فعل كثيرون غيرُه… وأفكار البيت هي المحرّك الأساسي لمن ينشأ فيه، والاتجاه العام للأسرة سيترك آثاره حتماً على أفرادها، حتى التبسّط الذي لم يخفِ نفسه في حديث الأب يشكّل ملامح تبسّط سيراه السوريون في قاموس الابن، وهو ليس تبسّطاً شكلياً في كل الأحوال، بقدر ما هو تقنية تفاعل مع الحدث وردٌّ متعمّد ومقصود عليه. ولم تعبر تلك التضاريس التي دفعت الأب إلى الاحتكاك بالنظام السابق، بدءاً من “الفريق” حافظ الأسد، ووصولاً إلى بقية أركان حكمه ورؤساء أجهزة المخابرات في عهده وعهد ابنه بشّار، عبوراً باهتاً في الحوار، وإنما أثثت الصورة بما يكفي بما عاشه السوريون، خصوصاً الذين اعتقدوا أن لديهم مشاريعهم الخاصة، سواء في الخدمة العامة، أو على مستوى الحياة الشخصية. وقد قدّم حسين الشرع الذي تُرك يتحدّث عن دهشته من كل ما مرّ به، وهو الهابط إلى الحياة السورية من تلك المرتفعات في الجولان، قدّم تصوّرات الحالمين من أجيال السوريين، اتسقت أو لم تتسق مع اتجاه حكومة ابنه، من التمسّك بالقطاع العام ودوره الاجتماعي، إلى تشجير البادية السورية بملايين فسائل النخل.

فتح الحوار صفحات البرنامج السياسي لأحمد الشرع، من خلال سيرة والده الذي عاش عنيداً ومحارباً، سواء في مكابدته، مستشاراً في رئاسة الوزراء، وخبير نفط، أو باحثاً ومؤلفاً يسعى إلى نشر أفكاره، وصاحب كفاءة علمية، يقاتل من أجل فرصة عمل تعيل أسرته، وحتى مؤسّساً لفرن وبقالة وجامعة خاصة… ذلك ما يجعل من حوار كهذا لحظة انتصار، صحيح أن الابن قال “فتح لا ثأر فيه” لكنه الثأر متحقّقاً في ثنايا ذلك الانتصار، يعيد الاعتبار للجولانيين الذين ظلموا ظلماً مضاعفاً، على يد الاحتلال الصهيوني الذي هجّرهم، وعلى يد الأسد الأب الذي استغلّهم ونهب المساعدات الأممية التي كانت تقدّم لهم حتى دفعهم إلى السكن في أحزمة الفقر حول المدن السورية، محرّضاً بقية شرائح المجتمع السوري عليهم، حتى إن كلمة “نازح” كانت أشبه بشتيمة وتعبير تحقيري، بعد أن كانوا كراماً في أرضهم التي بيعت للإسرائيليين مقابل الحكم.

تمكّن الحوار مع حسين الشرع، بطرفيه، من تعريف المشاهدين والمشاهدات على البيئة الاجتماعية والسياسية التي خرج منها الشرع الابن

لم يكن بلا دلالة أن يختار الابن لنفسه لقب “الجولاني” في فترة تخفّيه وعمله العسكري متعدّد العقائد والانتماءات، فها هو “جولاني” آخر، النسخة الأولى، كان يمكن أن يعيش على هامش الحياة السورية العامة، يطوّف به الحوار على أحلامه الأولى التي يراها اليوم وشيكة التحقق.

وتأتي حساسية حوار كهذا من حاجة السوريين إلى التعرّف أكثر إلى محدّدات تفكير رئيس الجمهورية الجديد وفريقه، وهو الأمر الذي لم تتحه الظروف المعقدة، في غياب الحياة السياسية وأوراق الأحزاب، بما فيه النواة الصلبة التي تدير الأمور، وتأتي هذه المحاورة لتضيف الكثير مما يحتاجون إليه للبناء عليه، وعدم الاكتفاء بما يندرج تحت النعوت التى يطلقها بعضهم على الشرع ومجموعته من قبيل “دواعش” و”تكفيريين” وغيرها.

كان أنس أزرق صبوراً كفاية، متخلياً عن فضول الصحافي وإلحاحه، مستعملاً الصمت تقنيةً لترك ضيفه يتورّط أكثر في التدفق، تورّطاً لا يبتعد كثيراً عن ذاك التورّط الإيجابي الذي يريد السوريون للسلطة في هذا الوقت أن تنخرط فيه نحو جمهورية دستورية مكتملة الأركان والهياكل. في بعض الأحيان، كان الصمت نوعاً من التواطؤ مع المشاهد، ولا سيما حين يمتنع أزرق عن سؤال ضيفه “كيف كنت تنظر إلى توجّهات واحد من أبنائك نحو الجهادية السلفية بدلاً من الانكباب على العلم والأعمال كحال أشقائه؟”، أو “لماذا لا تزال تلقّب ابنك حتى هذه اللحظة بالشيخ؟” ربما لم يكن الشرع – الأب ليمانع من الإجابة عن هذه الأسئلة، لولا أن إبقاءها مكتومة يجعل للحديث بالفعل صلة.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى