
أبدى الشبان القادمون من إدلب استغرابهم عندما دخلوا إلى مدينة القرداحة، مسقط رأس عائلة الأسد، فوجدوا أنها تشبه أي مدينة سورية صغيرة ولا تتكون من سلاسل من القصور الباذخة.
بالمقابل يسخر أهالي القرداحة، لا سيما بعد سقوط النظام، من الأساطير التي كانت متداولة عن مدينتهم. ويحوّلون المؤشر نحو «حي العيلة» ليدلّ على مساكن آل الأسد بوصفها مركز الشرور وموطن الفساد بكل أشكاله. مؤكدين أنهم كانوا أول من تعرّض لطغيان العائلة الرئاسية نتيجة الاحتكاك اللصيق.
بدورهم يختزن آل الأسد مرارة خاصة لا يبدو أن أحداً في وارد سماعها، وبالذات اليوم، عن إهمال الفرع الذهبي الحاكم لكثير من أفراد العائلة التي وصل عددها إلى المئات من «المضروبين بحجرة كبيرة» بسبب الكنية التي لا تنتج المال والنفوذ من دون تفعيل «من فوق». فضلاً عن «طعنة» بشار للجميع بهروبه المفاجئ وتركهم ليتدبروا أمورهم وسط خطر داهم سببته هذه الكنية أساساً.
وفي دائرة أوسع يجادل العديد من أبناء الطائفة العلوية، الآن أشد من أي وقت، بأنهم كانوا مجرد موظفين صغار في الماكينة الضخمة التي أشادها حافظ الأسد وورثها وورثهم ابنه. وأن معظمهم فقراء حتى اليوم فيما بقيت الثروات في مواطنها المعتادة، بين أيدي تجار وصناعيي المدن الكبرى ممن دخلوا في شراكات مع السلطة.
وفي داخل «البيت العلوي» المترامي الأطراف تشتكي طرطوس من غضب تاريخي عليها، عشائري ومذهبي وسياسي وحضاري، لصالح اللاذقية. وتتحدث الأخيرة عن تركز النافذين في جبلة. وتشير جبلة إلى مثلث صغير من بلدات وقرى أتى منها كبار ضباط حافظ الأسد. فيما لا يمل معظم أبناء هذه المحليات من لعن مسؤوليهم الذين «لم يخدموا أهل منطقتهم» أو خدموهم بطريقة بدت لهم غير كافية حين لم تشمل الجميع.
ولم يكن حظ مناطق أخرى من خزانات البلاد أفضل، من وجهة نظر أهلها. فمحافظة درعا التي كانت توصف بأنها «أهراء روما»، بسبب خصوبة أراضيها، صارت مورّداً للموظفين المتوزعين في أحياء دمشق الطرفية. والجزيرة التي تعدّ «سلة سوريا الغذائية» ما تزال من المناطق «النامية» وفق التصنيف الرسمي الذي يعترف بتأخرها، فضلاً عن التمييز في حق الكرد تحت سلطة حزب البعث، في ملف طويل عريض.
وسوى القهر الحديث الذي ملأ نفوس الفاتحين الشبان، بعد سنوات من القصف والحصار والتهجير والمخيمات؛ يجدر ألا نغفل عن أنهم أتوا من «المدينة المنسية» كما عُرفت بعدما نُسب إلى الأسد الأب تهميش خاص لها لأنها استقبلته برفع الحذاء في وجهه عندما كانت المحافظات الأخرى ترحب به إثر توليه الحكم في العام 1970.
غير بعيد تقع حلب، الأخت الكبرى التي لم تستقل إدلب عنها منذ وقت طويل. والتي تشكو، في العادة، من ظلمين؛ الأول تجاه دمشق وسلطتها أياً تكن بعد تركز الثقل الحكومي في العاصمة، والثاني من الأسد الذي ثارت ضده في الثمانينات ولم يستطع إخضاعها إلا بشراسة وبكثير من الدماء الباقية في الذاكرة، وأورثته موقفاً منها.
لكن مَن أَولى بجلجلة الثمانينات من حماة؟ المدينة التي تعرّضت لمجزرة حقيقة مبكرة وظلت أسيرتها حتى بدأت بالتعافي بعد التحرير، تنفض عن أكتافها آثار حقد تاريخي كما يعتقد أبناؤها، حمله ريف كاره للإقطاعيين والملّاك ومكوّن من خلطة متنوعة من الطوائف. وذلك على الرغم من أن علويي الداخل يتبرؤون من أي دور قادهم إليه إخوتهم من الساحل، الذين يعدّون أنفسهم في مرتبة أعلى نسبياً، سواء في أحداث حماة أو في حمص التي ملأها الأسد بعلويي «الجفتليك» في استخدام «خبيث» لهم في مخطط تغيير ديموغرافي لطالما اشتكى منه الحماصنة وما زال أحد مصادر الاحتقان في المدينة.
وهل يصح الكلام على ترييف المدينة بوجود دمشق؟ العاصمة التي أصبح أهلها أقلية بعد موجات لا تنتهي من الهجرة الكثيفة التي أنتجت توسعاً غير مدروس في العمران وتهالكاً في الخدمات وجفافاً لبردى وندرة في الخضرة التي كانت رفيقة سيران الشوام قبل أن تغزوهم جموع «الفلاحين» من كل فج عميق، مغيّرين حتى في طبيعة الريف الذي تقاسمته الاستملاكات العسكرية وأشباهها، لتتراجع وظيفته الزراعية ويبدو كتلاً متراصة ناقصة الإكساء من البيتون البشع.
وإذا كان «النظام البائد»، ولا سيما في طبعته الأبوية المؤسِّسة، قد منح كل هؤلاء المتظلمين متهماً غير بريء؛ فإن سقوطه وضعهم أمام هذه المشكلات مباشرة، من دون علّاقة يشبكون عليها الصعوبات وينسبون إليها التآمر على هذه المحافظة والحقد على تلك المدينة وتهميش ذاك المكوّن وخطف هاتيك الطائفة
ولم يكن حظ مناطق أخرى من خزانات البلاد أفضل، من وجهة نظر أهلها. فمحافظة درعا التي كانت توصف بأنها «أهراء روما»، بسبب خصوبة أراضيها، صارت مورّداً للموظفين المتوزعين في أحياء دمشق الطرفية. والجزيرة التي تعدّ «سلة سوريا الغذائية» ما تزال من المناطق «النامية» وفق التصنيف الرسمي الذي يعترف بتأخرها، فضلاً عن التمييز في حق الكرد تحت سلطة حزب البعث، في ملف طويل عريض. أما دير الزور، المصدر الرئيسي للذهب الأسود، فلم تأخذ من النفط إلا آثاره البيئية المسببة للأمراض، فيما ذهبت عوائده الكبرى للقصر الجمهوري ورواتبه المرتفعة لموظفين علويين. وقل ما شئت أيضاً عن شعور الرقة بالتهميش منذ أن استقلت، هي الأخرى، عن الشقيقة الديرية التي ما تزال تشعرها بالتفوق، ومن البلد الذي تركتها سياساته الزراعية عرضة لموجات من الجفاف، التي أدت إلى النزوح.
في حين لم تشفَ السويداء من أثر تصفية كبار ضباطها المشاركين في الحكم البعثي في الستينات، على يد رفاقهم، واتخاذها موقع المترقب الذي يحاول تدبّر أمر عيشه بموارده الشحيحة، منتظراً ثأراً تأخر حتى بدا أنه تبخر.
ما تريد الأسطر السابقة قوله هو أن لكل منطقة؛ محافظة؛ مدينة؛ طائفة؛ جماعة في سوريا مرافعة خاصة تسرد مظلوميتها. وفي كل حالٍ فإن أي دعوى من هذه الدعاوى المتراكمة المتزاحمة هي خلائط من حقائق وأوهام وطلبات غير قابلة للتنفيذ في ظل ضعف الموارد الطبيعية والاقتصادية والإدارية لسوريا.
وإذا كان «النظام البائد»، ولا سيما في طبعته الأبوية المؤسِّسة، قد منح كل هؤلاء المتظلمين متهماً غير بريء؛ فإن سقوطه وضعهم أمام هذه المشكلات مباشرة، من دون علّاقة يشبكون عليها الصعوبات وينسبون إليها التآمر على هذه المحافظة والحقد على تلك المدينة وتهميش ذاك المكوّن وخطف هاتيك الطائفة..
وما تود هذه الأسطر قوله، كذلك، أنه من دون استشعار الظروف الموضوعية للبلد، وامتلاك حس بالعدالة يتجاوز المظلوميات المتمحورة حول ذواتنا الأهلية؛ فإن الوصول إلى اتفاقات عامة واستقرار منتج سيبقى متعذراً طالما أن كلاً منا يشدّ اللحاف المهترئ إلى طرفه، ويهجم على الكعكة متناهية الصغر ظاناً أنها حقه الطبيعي الذي طال حرمانه منه، تاركاً الفتات للبقية على مضض.
لا يعني هذا، بالطبع، تجاهل السرديات المحلية. لكن المظلوميات، كالضرورات، يجب أن تقدَّر بقدْرِها.
المصدر: تلفزيون سوريا