تصدرت عملية تحويل متحف أيا صوفيا إلى مسجد أو إعادته لما كان عليه قبل أن يصبح متحفًا والبلبلة لتي سببها هذا التحويل، حيث راحت الأفكار تتناطح بين مريدين للمسجد، والتابعين للكنيسة، ولكن بحقيقة الأمر الموضوع مختلف كليًا عما يكتب عنه كصراع بين الكنيسة والمسجد، ولكي نتمكن من التعمق بحقائق الأمور يتوجب علينا في بادئ ذي بدء العودة بالتاريخ لننظر في ظهور الإمبراطورية العثمانية وإسقاط مدينة القسطنطينية وتحولها لعاصمة الامبراطورية العثمانية وليتم تسميتها الأستانه، أو كما يقول البعض الصدر الأعظم، وخاصة بالفترة الأخيرة التي تولى قيادة أمور الخلافة الوزير الأول ، وبشكل مبسط جداً سيتبين معنا صعود تلك الامبراطورية لتصبح عاصمة الخلافة الاسلامية، ولسبب بسيط هو ضعف دمشق وبغداد اللتان كانتا بالتتالي العاصمة للخلافة.
يُنسب العثمانيون إلى “عثمان خان بن أرطغرل” الذي بفضله تكوَّنت الدولة العثمانية، وينتمي العثمانيون إلى عشيرة “قابي” إحدى قبائل الغز (تدعى الأغوز) التي اضطرت إلى الهجرة عندما أغار “جنكيز خان” سنة 1226م على بلاد آسيا الصغرى، وبدأ عثمان يتوسع في أملاك الدولة البيزنطية، ثم قام بتنظيم الدولة العثمانية سنة 1300م.
شكَّل العثمانيون وحدات خاصة عرفت باسم “الإنكشارية”، وتمكنوا بفضل هذه القوات الجديدة من التوسع سريعًا في كلٍّ من البلقان والأناضول، إلا أنهم هُزموا أمام قوات “تيمورلنك” في أنقرة سنة – 1402م. وتلت هذه الهزيمة فترة اضطرابات وقلاقل سياسية، ثم ما لبثت الدولة أن استعادت توازنها، وتواصلت سياسة التوسع في عهد مراد الثاني (1421-1451 م)، ثم محمد الفاتح (1451-1481م) الذي استطاع أن يدخل القسطنطينية سنة/ 1453 م وينهي بذلك قرونًا من التواجد البيزنطي في المنطقة.
استمرت دولة المماليك في مصر لأكثر من قرنين وفيهما انتصروا على المغول وهزموهم في “عين جالوت”. وقد جاءت نهاية هذه الدولة حين قام السلطان العثماني “سليم الأول” (1512 م/ ـ-1520م) بفتح بلاد الشام بعد مواجهة المماليك في معركة “مرج دابق” شمالي “حلب”، وفي تلك المعركة أظهر السلطان المملوكي “الغوري” بسالة وثباتًا أمام العثمانيين بل وأوشك أن ينتصر عليهم، ولكن مدافع العثمانيين حالت دون ذلك وأدت إلى تشويش نظام المماليك ووقوع الرعب في قلوبهم، كما انحاز قائدا جناحيهما إلى العثمانيين، وانتهت المعركة بموت “قنصوه الغوري” تحت حوافر الخيل سنة 1516م.
عاشت الدولة العثمانية أكثر من ستة قرون، واجتاحت جيوشها الإسلامية أقاليم شاسعة في جنوبي شرق أوروبا ووسطها، وحارب العثمانيون أعظم ملوك أوروبا وطردوهم إلى بلاد المجر، وحاصروا فيينا عاصمة النمسا، واكتسحوا البحر الأبيض إلى شواطئ آسيا، ووجهوا مطامعهم إلى الجهة الأخرى نحو الشرق ففتحوا العراق والشام ومصر على يد “سليم الفاتح” وابنه “سليمان” ولكن كيف سقطت تلك الامبراطورية.
كانت هناك عوامل داخلية وخارجية أدت إلى سقوط الدولة العثمانية، تمثلت الداخلية منها في انحدار “الإنكشارية” وإهمالهم لتدريباتهم وقلة ارتباطهم بثكناتهم؛ وهو ما أدى إلى ضعف قدرتهم القتالية والحربية، كما تولى الحكم سلاطين ضعاف وانشغلوا بأمورهم الخاصة والصراعات فيما بينهم، وأصبحت السلطة في يد كبير الوزراء (الصدر الأعظم) أو كبار قادة الإنكشارية وهو ما عجَّل بانهيار الدولة العثمانية.
أما العوامل الخارجية فتمثلت في تفكك الحكومة المركزية وانتصار الجيوش الأوروبية على الجيوش العثمانية بسبب تقدم الأسلحة الأوروبية التي كانت تفوق أساليبهم القتالية بالإضافة إلى الامتيازات الأوروبية التي بدأت تتدخل في شئون الدولة.
وانتهت الإمبراطورية العثمانية بشكل رسمي عام 1924مـ حين قام “مصطفى كمال أتاتورك” بإلغاء الخلافة العثمانية وإعلان قيام الجمهورية التركية بحدودها المعروفة حاليًّا.
أما موضوع الكنيسة أيا صوفيا والذي يهمنا أكثر من هذا المقال ، فبكل بساطة ووفق ما يذكره التاريخ أن الكنيسة تم الاتفاق مع القائمين عليها بذاك الزمان لشرائها أي القساوسة، ولسبب بسيط فإن الكنيسة لم يعد هناك من يرتادها حيث الأغلبية العظمى من أتباعها دخلوا الاسلام، أو هاجروا إلى دول أخرى وأصبحت عبئًا ثقيلاً على القساوسة فقرروا بيعها للخليفة والذي اشتراها بماله الحر، ولم يكن بأمر مخالف للعرف بالنسبة للكنيسة، حيث منذ ذاك الزمان كانت الكنيسة تتصرف بأموالها وأملاكها كما تشاء، وهذا معروف جيدًا ليومنا هذا وكم من كنائس يتم بيعها يوميًا لتتحول إلى نوادي ليلية أو مقاهي ومطاعم، لذلك من الناحية القانونية لا يوجد أي خلاف للتحقق عليه أمام القضاء الدولي، ولم تعترض عليه جهة دينة بذاك العصر لكي تعترض قانونيًا عليه اليوم .
موضوع تحوله فيما بعد إلى متحف على يد كمال أتاتورك الذي أسس الجمهورية التركية الحديثة بعد سقوط الامبراطورية العثمانية، وسعيه الكبير للتقرب للغرب، وإعلانه الابتعاد كلياً عن مفاهيم الاسلام، حيث منع الآذان وأوقف التكيات، وأغلق المساجد ليعلن تركيا جمهورية عَلمانية بامتياز، معتقداً أن العلمانية هي الابتعاد عن الدين والذي اعتبره، أي الدين، السبب الأساسي بتراجع الدولة، مستعينًا بفوهات المدافع والسلطة العسكرية والقوة القمعية لمن يعارض تلك القرارات، وبلا شك كانت إحدى قرارته تحول الجامع إلى متحف.
لننظر اليوم لواقع الأمور، بشكل يساعدنا على فهم خطوة أردوغان بإعادتها إلى جامع، بعد كل هذه الفترة نعلم جيدًا وهذا ليس ببعيد أن تركيا الحديثة العلمانية كما أراد تسميتها أتاتورك كانت تعيش تحت سلطة العسكر ولكن شعبها الآتي من أعماق الأناضول، لم ينزع عن نفسه ثوب الإسلام، بل تابع وبهدوء إسلامه والخلقيات التي تربى عليها حتى ظهر أربكان المهندس الجديد لتركيا، مستفيدًا من المنابر والنوادي ليكونوا منطلقًا سياسيًا جديدًا يعطي لتركيا روحاً جديدة، ولتأخذ شكلاً جديداً، ومحاولة إثبات وجودها ضمن المجتمع الدولي متقربة للغرب لتكون العلاقة تكاملية تشاركية، ولكن الغرب ظل يرفض ذلك، معتبراً تركيا من الدول التابعة، وليس من الدول صاحبة القرار التشاركي، ونتساءل هل هذا نابع من ذكريات الماضي، الذي سيطرت به الدولة العثمانية على أغلب الدول الأوربية، أم النزعة الفوقية، التي يستعملها الغرب مع كل دولة خارج الحدود للقارة الأوربية، علمًا أنه ومنذ استلام أردوغان كانت هناك محاولات عدة لكي تدخل تركيا الاتحاد الأوربي، كانت تنتهي دومًا بالرفض ومن دول عدة، رغم محاولاته بتطوير أمور عديدة لتتلاءم وسياسة أوربا الاقتصادية والاجتماعية ومفاهيم الحرية والعدالة الاجتماعية التي ينادون بها، وكلنا يعلم أن العلاقات السلبية التي تظهرها أوربا اتجاه تركيا لم ولن تكون قائمة على مفاهيم وأبعاد مسيحي مسلم أو كنيسة وجامع ، حتى لو في بعض الأحيان تتطرق وبشكل غير مباشر، إلى موضوع المتأسلمين وهو موضوع مختلف كلياً، وبشكل خاص إن أغلبية الدول عَلمانية ولا تبالي بموضوع الكنيسة والجامع من أساسه، لذلك يعتبر الموضوع اليوم موضوع فوقية أوربا وعنجهيتها، الذي قاد أردوغان لاتخاذ هذا القرار بإعادة المتحف إلى جامع، ليوصل الرسالة الحقيقية لدول العالم بأن تركيا بما هي عليه اليوم مازالت لها مكانتها بالعالم ولها مجدها عبر التاريخ ، ولن تقبل التبعية ولا السياسة الاوربية بتصنيفها دولة من العالم الثالث، الذي لا قرار له في المجتمع الدولي ، ولن تدخل أوربا بمناطحات مع تريكا بهذا الشأن، لأنها ستفتح على نفسها أبوابًا عدة، منها تحويل جوامع الأندلس إلى كنائس، وبعض منها في بعض الدول إلى حانات ومطاعم، والأبشع من ذلك كما بين الاعلام تحويلها بعضها إلى اسطبلات، حينها سيتحول الموضوع إلى صراع لا حدود له، بين مسلم ومسيحي وهم بغنى عن هذا الصراع ،حيث الجالية الاسلامية بأوربا لها مكانتها وسلطتها وحجمها، لذلك كانت ردات الفعل الحكومية خجولة، حتى الفاتيكان، اللهم بعض المتطرفين، وليس من منطلق ديني بل من منطلق فوقي لا أكثر، وبلا شك لا يمكن أن نهمل ما نشره القسيس مؤخرًا معددًا الجوامع التي تحولت إلى كنائس في الأرض المحتلة أو إلى مطاعم وخمارات .
المصدر: اشراق