
ليست المعارضة السورية في العنوان أعلاه معارضة نظام الأسد الساقط، فقد عورض هذا وانتهى أمرُه، وإنما هي جموعٌ من السوريين، مثقفين وناشطين وسياسيين، وناساً متنوّعي الأمزجة والميول والمرجعيات، ساخطون على السلطة الانتقالية الراهنة، أو غير راضين عن أدائها، أو لا يجدون ما يُقنِعهم فيه في غير ملف. ويتباين هؤلاء في مستويات الغضب والاحتجاج والمؤاخذة، فثمّة من هم في موقع رفض هذه السلطة ووجودها بالمطلق، وبعصبيّةٍ وتوتّرٍ ظاهريْن أحياناً، سيّما عندما يراها هؤلاء عصيّةً على أي إصلاح، ومن هم في موقع الناصح المراقب الناقد الذي يتوخّى التصويب وتقويم أي اعوجاج، ويروْن في اهتزاز هذه السلطة وارتجاجِها، وسقوطها أو إسقاطها، ولو سمّوها أحيانا سلطة أمر واقع، كارثةً تأخُذ سورية إلى مجهولٍ مُفزع. … ومن الطبيعي أن يُشاهَد هذا الاصطفاف، وأن تتعدّد مقاربات المجتمع الأهلي لطرائق عمل الإدارة القائمة وأسلوبها في تسيير الدولة وتنظيم عمل هياكلها وأجهزتها ومؤسّساتها. ولئن نُسعَد بكل هذه المداولات في تشريح الحال الراهن، ومن منظوراتٍ مختلفة، ولئن نُسعَد بأن فضاءً واسعاً من الحرية يجري هذا النقاش في مساحاته، بسقوفٍ عاليةٍ في مطارح كثيرة منه، فإن ثمّة وجوباً صار ملحّاً، أن يتخفّف الجميع من التخندق والعنف اللفظي والتوتّر الزائد والبحث عن الخصومات، فهذه لا تُعالج مشكلاً، وعوائدُها شديدة السلبية، وتُضاعف من التشوّش في المجال العام الذي لا تنقُصه أسباب الكآبة، والتشاؤم ربما.
تعجَب من مثقف (أو مثقّفة) سوري يندّد ب”الموت اليومي لسوريين تحت التعذيب في سجون السلطة”. وتستفظع فائض الثقة في زميلنا هذا، وهو يستسهل نثر هذا الكلام المُرسل، وتسأل نفسََك إن كانت تفوتك أخبار هذا التعذيب وذاك التمويت، وتفتّش عنها لتداري غفْلتك عنها. والقول هنا إن في سورية اليوم، تحت إدارة الحكم الحالي، كثيراً مما يستحقّ النقد والانتقاد، وما يلزمه رفعُ الصوت عالياً بشأنه، وفي وُسع المعارضين إشهار المواقف التي يريدون في خصوصها. والنصيحة لهم هنا أن لا يفتعلوا أشياء غائبة، ولا يتزيّدوا في صناعة مبالغاتٍ ستخصم حتماً من صدقيّة معارضاتهم. فموت شابٍّ في ساحة الجامع الأموي، في أثناء القبض عليه، حادثةٌ مؤسفة، وتلزم محاسبة من تسبّب بها، غير أنها لا تعني أن تتفرّغ كتائب معارضين في ملاعب السوشيال ميديا للتشهير بسلطةٍ “تقتل الناس وتعذّبهم”. وكذا الأمر بشأن قتل ممثلةٍ في منزلها بعد سرقتها واقعةٌ لا تعني أن سورية في فلتانٍ أمني، فجريمة مثل هذه تقع مثيلاتٌٌ لها في أكثر البلدان أمناً وأماناً، والأهم أن الأجهزة المختصّة أعلنت أنها قبضت على القاتل السارق.
من الخبل أن يوصَف الحال في سورية بأنه المبتغى. يعلن المسؤولون عن مشكلاتٍ كبرى تحتاج جهوداً جبّارة. ولم يغالِ صاحب هذه الكلمات لمّا وصف، مرّة، وزراء الحكومة السورية الراهنة بأنهم فدائيون، وهم يتولّون مسؤوليّاتهم في ظروفٍ شديدة الهشاشة، وفيما الإمكانات والموارد شحيحة، وفيما تهديداتٌ من الداخل والخارج تستهدف أمن البلاد والعباد. وفي الوقت نفسه، تمضي السلطة في مسالك في إدارتها الشأن العام بكيفيّاتٍ غير مُرضية، ولا تستقيم، غالباً، مع شروط بناء الدولة المشتهاة والنهج الديمقراطي اللذين ضحّى السوريون كثيراً لتحقيقهما، غير أن التسليم بهذا المعطى لا يحسُن به أن يُبقينا في هذا المربّع، فلا نغادره إلى مساحاتٍ تلاقٍ واختلافٍ مع السلطة في غير أمر. والقول من قبلُ ومن بعد إنها مرحلةٌ انتقاليةٌ لها ظروفها وحساسيّتها، يُفترض أن تنتهي بعد أقلّ من خمس سنوات، ويُفترض أن ينهض السوريون جميعاً في أوراش نقاشٍ عامٍّ بشأن المستقبل، القريب منه والبعيد. وإذا كانت لك تصوّراتك واجتهاداتك يلزم أن تكون على شيءٍ من الديمقراطية، وتعرف أن لغيرك تصوّراته واجتهاداته، وأن الحكم، أي حكم في أي أرض أعسر، ملايين المرّات، من أي معارضةٍ في وُسع أي أحدٍ أن يزاولها، مطمئناً بالثقة الضافية في جوانحه بأنه يقيم على الحقّ، فيما السلطة التي “يُخالفها” على باطلٍ في كل صباح ومساء.
… أكّدت لجنة تحقيقٍ تابعة للأمم المتحدة، بشأن ما وصفتها محقّة “جرائم حرب” ارتُكبت في هجماتٍ على مدنيين في الساحل السوري، إنها “لم تجد أي دليلٍ على وجود سياسةٍ أو توجيهاتٍ حكوميةٍ لتنفيذ مثل هذه الهجمات”. ولكن زملاء وأصدقاء سوريين، نحبّهم، حسموا أن “الإبادة” (بلفظتهم) هناك جرت بتعليماتٍ وأوامر من السلطة في دمشق. والمتمنّى منهم أن يُشهروا الأدلة عندهم، لنكون لهم من الشاكرين.
المصدر: العربي الجديد