طغى التقارب العربي مع النظام السوري في الأشهر الأخيرة، ولكن حصاده كان “زيواناً”، أي أنّه لم يُحدِث أيّ تغيير يُذكر. هذا التقارب، الذي جاء على خلفية اتفاق بكين بين السعودية وإيران، والزلزال الذي ضرب تركيا وسورية، واجهته لاءاتٌ دولية، لطالما كرّرتها الدول الغربية: لا تطبيع ولا إعمار ولا رفع للعقوبات. بل وزارت وفود دبلوماسية أميركية الرياض، وأكّدت عدم جدوى ذلك التقارب، حيث لا يستند فعلياً إلى قرار مجلس الأمن 2254.
فاجأتنا المعارضات السورية، أخيرا، باجتماعات جديدة “لجنة التفاوض” في جنيف، وبيان جديد لمناف طلاس عن ضرورة المجلس العسكري، واجتماعات “مدنية” في باريس. تتحرّك هذه الاجتماعات بإيحاءات دولية، ولا سيما أنّ التقارب، أعلاه، وبين تركيا والنظام يجري بدعمٍ من روسيا، وقد تجاهل المعارضة السورية كلّيٍا. وإذا كانت تركيا مدفوعة للتقارب بسبب انتخاباتها “المصيرية” في الشهر الماضي (مايو/ أيار)، فإنّها عادت، بفوز أردوغان رئيسا، إلى التوازن في مواقفها تجاه القضية السورية. اللاءات الغربية، والموقف الإيراني الحَذِر من تطبيع النظام السوري مع تركيا، أوجدت له روسيا حلاً وسطاً، وهو العودة إلى مسار أستانة، وانعقد اجتماع له أمس (20 يونيو/ حزيران الحالي). ملفت جدّاً قول السفير الروسي في دمشق ألكسندر يفيموف، لصحيفة الوطن، إن النظام السوري طلب قرضاً من روسيا، والأخيرة تدرسه، والقصد من ذلك أن النظام خاب ظنه تجاه الدول العربية بأنّها ستعطيه مالاً وستساعده في رفع العقوبات الغربية.
اجتماعات المعارضة أعلاه “سياسية، عسكرية، مدنية” هي رسالة داعمة للمواقف الغربية، أنَّ هناك بديلاً عن النظام؛ وهي موجّهة إلى روسيا وللدول العربية أن مسار التطبيع “خطوة خطوة” لن يفهمه النظام إلّا باعتباره اعترافاً به، وبأن الدول العربية كانت على خطأ بمواقفها ضدّه، وعليها التكفير عن ذنوبها ورفده بالمال وتعويمه دولياً.
دولياً، انتهى أمر النظام؛ فالقرارات الدولية حاسمة تجاهه، وكذلك القوانين الأميركية الخاصة به، والمقصد أنّه لم يعد ممكناً تعويمه. قبل أيامٍ، تقدّمت كل من كندا وهولندا بدعوى ضده أمام محكمة العدل الدولية، وبضرورة محاسبته على جرائمه منذ 2011. وبغض النظر عن إمكانية ذلك، فهو تقدّم خطير في فقدان النظام أيّ مصداقية له في تلك الدول، ويدعم ذلك، وبغض النظر عن دوره الكارثي في سورية، تموضعه إلى جانب روسيا في حربها ضد أوكرانيا، في الوقت الذي تدعم فيه الدول الغربية أوكرانيا.
عادة، لا يعلن مناف طلاس عن تحرّكاته علانية. للرجل وزن داخل مؤسسة الجيش في سورية، وهو مقبول لدى أطراف كثيرة في المعارضة ودولياً. لا يختلف موقفه مع المسارات التي تقدّمت في سورية، وبقصد إنهاء فوضى السلاح، وإعادة المناطق الخارجة عن النظام إليه، وقد ساعدت كل من أميركا وتركيا بتسليم درعا وأرياف دمشق وحمص ومناطق كثيرة. مشكلة النظام أنه لم يفهم أن هذه التطوّرات، ومنذ تسليم حلب 2016، كان القصد منها فتح الطريق أمامه لينفتح بدوره على المعارضة، وليس تعطيل مسارات جنيف وأستانة واللجنة الدستورية وسواها.
توهّم النظام أنّه انتصر، وطرح على المناطق المستعادة فكرة التسويات والمصالحات، وفعلاً، ورغبة من الناس بالتخلّص من عدوانيّته وقمعه، وافقوا عليها، ولكنه لم يتعامل مع السكان إلّا كمجرمين وإرهابيين. وبالتالي، لم تتغيّر أوضاع الناس، وظلّت حالة عدم الاستقرار هي السائدة، وهي الحالة الحقيقية لتوصيف المناطق الواقعة تحت سلطته بما فيها اللاذقية والسويداء وحمص وأرياف دمشق؛ وهذا بالضبط ما سيستفيد منه مناف طلاس الذي يرتبط بيانه عن ضرورة المجلس العسكري بالمرحلة الانتقالية والحل السياسي والقرارات الدولية ومنعاً للفوضى. إذاً يتحرّك الرجل وفقاً لإيحاءات دولية بأن الوضع السوري لم يعد قابلاً للاستدامة في التعفّن، ولا يبدو أن التقسيم مقبول إقليمياً ودولياً.
يأتي ذلك كله مع تحركات أميركية جديدة في شمال سورية وشرقها، حيث استقدمت معدّات عسكرية (صواريخ هيمارس) وسواها، ووسّعت من قواعدٍ عسكرية سابقة، وعملت على دعم فصائل عسكرية عربية، وتحاول التواصل مع العشائر، وإيجاد التنسيق بينها وبين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية. وبالتالي، لم تعد الإدارة الأميركية تفكر بالانسحاب من سورية في الوقت الراهن، وهذا سيُفشِل أيَّ قراراتٍ ستتخذها روسيا أو تركيا أو إيران ضد “قسد”، أو ضد القوات الأميركية لتدفعها إلى الانسحاب، وهناك تقارير تؤكد أن القوات الأميركية ستغلق الحدود العراقية السورية أمام إيران في الأشهر المقبلة. وبالتالي، ستضيّق الخناق على الوجود الإيراني في سورية ولبنان. يشار إلى الفكرة الأخيرة إعلامياً بأن صيفاً ساخناً سيكون في شرق سورية؛ فإيران تتجهز لمناوشة القوات الأميركية، والأخيرة تتحوّط من ذلك، وتنسّق بين الفصائل وتضاعف قواها العسكرية.
اجتماع الدول الداعمة (دعم مستقبل سوريا والمنطقة)، هذه الأيام، في بروكسل، كرّر فيه منسّق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي حوزيب بوريل اللاءات أعلاه، وشكّك بأن الآلية التي تقوم بها الدول العربية أو تركيا بالتطبيع مع النظام السوري ستُفضي إلى حلٍّ للوضع السوري.
تأتي اللاءات المكرّرة ضد تعويم النظام السوري، وتحرّكات بعض مؤسّسات المعارضة السورية، في إطار رفض التطبيع معه؛ وتأتي بالضد من إعلان بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، عن “خريطة طريق” بين سورية وتركيا، وسيُعلن عنها في اجتماع أستانة اليوم. تركيا التي تحتضن ملايين اللاجئين، وتوجد داخل الأراضي السورية بقواتها أو عبر دعمها للفصائل السورية، ليست على وفاقٍ مع الولايات المتحدة بسبب دعم “قسد”، وهما تختلفان في تقييم الحرب الروسية على أوكرانيا، وهناك موضوع التحاق السويد بحلف الناتو، وتوقيف أميركا صفقات عسكرية معها. وأيضاً لا تتفق تركيا مع إيران في قضايا كثيرة في المنطقة، وحول وجودها الكثيف في سورية، وإذا كانت هناك أسباب متعدّدة للعلاقات القوية مع روسيا، ولا تقتصر على سورية، فإنها، وبعد فوزه بالرئاسة خمس سنوات مقبلة، وورطة روسيا في أوكرانيا، لن يتخلّى أردوغان عن شروطه من أجل إعادة اللاجئين، وإحداث تغيير في بنية النظام السوري، وهو ما يرفضه النظام، ويطالب تركيا بالانسحاب الكامل من سورية.
تأتي تحرّكات المعارضة السورية ضمن هذه التطوّرات الكثيرة في العالم بخصوص الوضع السوري. وإذا كانت التطوّرات لا تحمل مشروعاً محدّداً لتغيير النظام السوري، ربما تكون فقط توسعة لمناطق سيطرة الولايات المتحدة في شرق سورية. وقد تعاود التمدّد إلى الجنوب السوري، فهي قاطعةٌ في مسألة رفض تعويمه. الوضع الداخلي لدى النظام في غاية التأزم، وأغلب الظن أن روسيا لن تقبل إقراضه مليارات الدولارات؛ فحربها في أوكرانيا أوْلى بها، والتي لا يبدو أنّها ستنتهي قريباً، وبالتالي، والأقرب إلى الصواب، أن الوضع السوري سيزداد تأزّماً، وهو مفتوحٌ على كل الاحتمالات، والأخيرة لا تتضمّن خروج النظام من أزمته وعزلته، والتقارب العربي يلفظ أنفاسه، ولنقل إنه لن يتجاوز الجانب الأمني وشيئا من العلاقات الدبلوماسية.
هناك تقارب أميركي خليجي مستجد، وتعود أميركا إلى المنطقة متنبهة إلى أن مواجهة الصين لا تتم في المحيطين الهندي والهادئ فقط، بل وفي منطقتنا أيضاً، وفي سورية بالتحديد؛ فهل ستتمكّن المعارضة السورية، وليس فقط القوى الثلاث أعلاه، من تبنّي مشروعٍ جديدٍ للتغيّر؟ لا تبدو أنّها قادرة على ذلك، ولكنّها تتحرّك ضمن الرؤيتين الأميركية والأوروبية، وهذا هام.
المصدر: العربي الجديد