
أشعر أنني أميل للهمجي. لا أبرّر ذلك ولا أتباهى به، أسمّيه باسمه لأفهم من أين يأتي. أميل إليه لأنني أميل إلى الجرح قبل البيان، إلى من يتكلّم من قاع التجربة لا من شرفة المفاهيم. أرى “المتوازن” يتكلّم بلغة أنيقة صقلها التعليم والفرص، فأرتاب: هل توازنه ثمرة عدالة أم امتياز؟ وحين أنحاز للفقير ضد الغني، لا أفعل ذلك بدافع فضيلة خالصة، بل بدافع ذاكرة طويلة من الإقصاء، ذاكرة تقول إن من لم يُعطَ الاعتراف والفرصة، يُدفع إلى الصراخ بأشكالٍ قبيحة ومنها الهمجية والطائفية.
أفكّك هذا الميل فأجده مركباً من ثلاث طبقات. أولاً، طبقة الجرح: من حُرم الاعتراف يميل إلى ردّ الاعتراف عن سواه. من حُبس في خانة ضيقة يبني بدوره سلالم من الخانات. هكذا يعمل “اقتصاد الندرة” في الأخلاق: يندر الاعتراف بالكرامة، فتُقاسم بقبضات مشدودة لا بأيد مفتوحة. ثانياً، طبقة المعنى: من عاش حياة ملساء يميل إلى الكلام عن المبادئ، ومن عاش حياة خشنة يميل إلى الكلام عن النجاة. تتصادم لغتان: لغة القاعدة العامة ولغة النجاة اليومية. ثالثاً، طبقة السلطة: حين تُدار المجتمعات بتفاضل مُمنهج في الموارد والفرص، تُصبح الكراهية وسيطاً اجتماعياً مثل أي سلعة؛ تُنتج وتُوزّع وتُعاد تعبئتها.
يبدو خطاب بعض السوريين ممّن كانوا محظيين في عهد الأسد أقرب إلى إعادة إنتاج هيمنة سلطوية منه إلى مقاومة الظلم، وإن بلغة مختلفة.
أسأل نفسي: هل يصنع النظام السياسي وحده هذه الكراهية؟ أغلب الظن أنّه لم يكتفِ بصنعها، بل هندس بيئتها، رسّخ الفوارق، جرّف الجسور، وترك الناس يتدبرون فجوات لا تُعبر. لكن هذا لا يعفينا من رؤية “الميكانيزم” الداخلي: تتراكم الإهانات الصغيرة، تتخشب في الوجدان، ثم تبحث عن مخرجٍ رمزي فتخرج في صورة همجية أو طائفية. لا تنبت الكراهية من العدم، تنبت من “عنفٍ بنيوي” يُطبع في الأجساد والعادات، ثم يطلب منا فوق ذلك ضبط النفس باسم الحكمة. يُقال “الوعاء الكبير يحتوي الصغير”، لكن ماذا لو كان الوعاء الكبير ممتلئاً بما يمنع أي احتواء؟ كيف يُطالب المهمّش بسعة الصدر وهو لم يُسمَح له أصلاً بامتلاك صدره؟
في سوريا يمكن ملاحظة كيف أن بعض الأطياف، ممّن وضعوا تاريخياً في موقع حماية السلطة لهم، اكتسبوا لغة فوقية في التعامل مع المكوّن الأكبر، رغم أنّ هذا المكوّن لم يُتح له مثل ما أُتيح لهم من فرص.
أراقب سلوك “المثقّف” فأزداد حيرة. مَن أُتيح له التعليم والقراءة والسفر، يفترض أن يمتلك عدّةً أفضل للتعاطف وكبح التعميم. ومع ذلك، أراه يطلق أحكاماً قاطعة، وربما أشد حدّة من أحكام المهمّش الذي يصرخ بدوافع النجاة. أين الخلل؟ ربما لأن المعرفة بلا اختلاطٍ يومي بالآخر تتحوّل إلى درعٍ نرجسي، تُؤمّن لصاحبها شعوراً بالتفوّق الأخلاقي، لا مسؤوليةً إضافية. وربما لأن الامتياز، إن لم يُفكَّك نقدياً، يغري صاحبه بوهم “الشفافية”: يظن أنه يرى الواقع كما هو، لا كما صيغ لعينَيه.
أفتش في المساءلة الأخلاقية فتصطدم بفكرة “الحظ الأخلاقي”: لسنا مسؤولين عمّا لم نختره من مواضع ولادةٍ وتربيةٍ وفرص. لكننا مسؤولون عمّا نصنعه بهذه المعطيات. هنا يتبين لي أن ميلي إلى “الهمجي” لا يجوز أن يتصلّب. يجب أن يتحوّل إلى محاولة فهمٍ قبل الحكم: أفهم دوافعه وأفهم دوافع كراهيتي له أو تعاطفي معه، ثم أضع الاثنين في محكّ معيارٍ لا يعتمد على قصتي أو قصته، بل على قاعدةٍ تتخطّانا. يمكن استدعاء “أخلاقيات اللايقين”: حين لا أثق بعدالة شروط اللعبة، أؤجل الأحكام المطلقة، وأفضّل قواعد تقلّل الأذى وتمنع التعميم على جماعاتٍ كاملة مهما كان الجرح عميقاً.
تدفعني هذه الرؤية إلى إعادة تعريف “الموضوعية”. الموضوعية التي تتغذّى من امتيازٍ غير مفكَّك ليست فضيلة، هي ترتيبٌ جمالي للسطح. التوازن الذي يمرّ عبر الاعتراف بالجرح ثم يخترع لغةً لا تكرّر قسوته هو الفضيلة الأصعب. لا أطلب من المهمّش حمل قداسة إضافية فوق حمل الجوع، أطلب من الميسور أن يدفع كلفة توازنه: كلفة الإنصات، وكلفة إعادة توزيعٍ رمزي ومادي، وكلفة تغييرٍ مؤسسيّ يجعل العدالة ليست خلقاً فردياً، بل بنيةً عامة. يبدو خطاب بعض السوريين ممّن كانوا ذوي حظوة في عهد الأسد أقرب إلى إعادة إنتاج هيمنة سلطوية منه إلى مقاومة الظلم، وإن بلغة مختلفة. كأن امتيازهم الثقافي والسياسي يخوّلهم احتكار التعريف بالآخرين.
لا أبرئ نظام الأسد الذي صاغ بيئة العداء واشتغل بالفوارق، ولا أُسقِط عن الأفراد ما يملكونه من حريةٍ جزئية للاختيار.
أعود إلى نفسي. أرى أن ميلي إلى “الهمجي” هو في قاعه ميلٌ إلى الاعتراف بمن لم يُعترف به. أميّز بين التعاطف مع الجرح وبين تبنّي منطق الجرح. الأول يوسّع اللغة، الثاني يورّث الندبة. وأرى أن المسؤولية تتوزّع على مستويين: فردي يسعى إلى نقد عاداته الكلامية وتفكيك تعميماته، ومؤسسيّ يصنع شروط عدالةٍ تقلّل دوافع الكراهية قبل اشتراط كبحها.
لا أبرئ نظام الأسد الذي صاغ بيئة العداء واشتغل بالفوارق، ولا أُسقِط عن الأفراد ما يملكونه من حريةٍ جزئية للاختيار. أفضّل صيغة توحّد بين النقدين: نقد السلطة التي جعلت الكراهية لغة سائلة، ونقد الذات التي يسهل عليها أن تستعير هذه اللغة لأنها الأرخص كلفة. لستُ ضد “المتوازن” لأنّه متوازن، بل ضد توازنٍ لا يكلّف صاحبه شيئاً. ولستُ مع “الهمجي” لأنّه مظلوم، بل مع تحويل ظلمه إلى سياسةٍ للعدالة لا إلى هندسة جديدة للكراهية.
أكتب هذا لأذكّر نفسي بأن الانحياز الأخلاقي الأصدق يبدأ من الاعتراف بعدم التكافؤ، ثم يعمل على تغيير الشروط والظروف لا على تكريس أقنعةٍ جديدة.
المصدر: تلفزيون سوريا