
أطلَّ رئيس حكومة الاحتلال والإرهاب الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، متحدّثاً عن التكليف الإلهي التاريخي المستقبلي المعطى له فقال: “أنا في مهمّة تاريخية وروحية. متمسّك برؤية إسرائيل الكبرى التي تشمل الأراضي الفلسطينية، وربّما أيضاً مناطق في الأردن ومصر وسورية ولبنان. أنا في مهمّة أجيال. هناك أجيال من اليهود حلمت بالمجيء إلى هنا. وأجيال من اليهود ستأتي بعدنا. نمنح الفلسطينيين في غزّة فرصة مغادرة مناطق القتال أولاً، وقبل كلّ شيء، ومغادرة الأراضي بشكل عام مثلما حصل خلال الحروب في سورية وأوكرانيا وأفغانستان”… كلام خطير وذو أبعادٍ مدمّرة لكلّ المنطقة، وسبق لمسؤولين في حكومته أن دعوا إلى إقامة “الدولة الفلسطينية المزعومة” في السعودية أو فرنسا أو بريطانيا، كما قال منذ أيام رئيس الكنيست أمير أوحانا، ردّاً على الرئيس الفرنسي ماكرون ورئيس حكومة بريطانيا كير ستارمر: “إذا أردتم إقامة دولة فلسطينية فأقيموها في لندن أو باريس. الاعتراف بالدولة الفلسطينية انتصار لحماس”.
صدرت مواقف رسمية عربية “مندّدة ” و”مستنكرة” و”مستهجنة”، لا قيمة لها فعلياً في الحساب الإسرائيلي، فموقف نتنياهو وشركاؤه ليس جديداً في أبعاده “الإلهية” و”الدينية” و”الروحية”. يقوم المشروع الإسرائيلي أساساً على أخذ الصراع إلى هنا والاتكال على العرب ليقتتلوا مذهبياً ويتشرذموا جماعات وفصائل وإمارات واجتهادات دينية، تحيي (وتغذّي) ما جرى منذ 1400عام، فيصفّون بعضهم، وتصفّي إسرائيل حساباتها معهم وتأخذ فلسطين كلّها، وتقيم دولتها الموعودة في أرضهم كلّها، وتتمدّد نحو الدول الأخرى بالتكليف الإلهي نفسه.
لم تتغيّر السياسة الإسرائيلية منذ القادة الأوائل؛ مشروع توسعي يستند إلى تكليف إلهي مزعوم ونهج مستمر
والدولة العبرية لا تخلّ بوعودها فتلتزم بالتكليف الالهي والمشروع التوسّعي، ما دامت الظروف تسمح لها، والفرص تتوالى أمامها، والعرب واهمون تائهون خائبون في الغوص في أعماق “الاتفاقات الإبراهيمية” و”التسامح” و”الأخوة” و”الإنسانية” و”الاستقرار” و”الازدهار”، ويروْن أمامهم ما تفعله إسرائيل وما يصرّح به قادتها. إنهم خارج دائرة الفعل والتأثير في تقرير المصير، مُسيَّرون وإلا فالمُسيَّرات فوق رؤوسهم وحولهم، ويجب أن يدفعوا ما عليهم. ويدفعون ويندفعون، ويصدّقون أنهم يعملون لأجيال مقبلة ستُصاب بخيباتٍ كبيرة إذ لن يبقى لديها شيء يضمن الاستمرار، فتمويل أميركا واقتصادها وشركاتها، وكلفة حروبها وحروب إسرائيل ومشاريعهما الاستراتيجية، ستكون على عاتق هؤلاء العرب.
في كلّ الأحوال، لم يكد كلام نتنياهو ينتشر، حتى خرج وزير ماليته، بتسلئيل سموتريتش، ليعلن: “سنطرح خطّة E1 التي تدفن الدولة الفلسطينية. تتضمّن الخطة بناء أكثر من 5400 وحدة سكنية جديدة في معالي أدوميم في القدس، وتقطع التواصل بين رام الله والضفة. بعد 20 عاماً من التأخّر نعلن انطلاق برنامج ربط معالي أدوميم بالقدس، نصادر آلاف الدونمات ونستثمر المليارات لإدخال مليون مستوطن إلى الضفة. الدولة الفلسطينية تشكّل خطراً على إسرائيل، الدولة اليهودية، الوحيدة في العالم”. هو يؤكّد كلام نتنياهو ويتحدّث عن الإجراءات العملية لتحقيقه، وتعمل الجرّافة الإسرائيلية، مع الآلات الأخرى، ولا شيء يوقفها، ويشير إلى منطق “القومية اليهودية الدينية” بقوله إن إسرائيل الدولة الوحيدة لليهود في العالم، وكأنه يقول إن من حقّ كلّ عرق، أو أبناء دين معيّن، إقامة دولتهم الخاصّة هنا وهناك، بما يعمّم الفوضى في العالم كلّه، وليس في منطقتنا وحدها، وبما يهدّد وحدة الدول والشعوب. هذا هو العقل الإسرائيلي الشيطاني يواجهه عقل عربي ساذج (إن وجد)، وأوهام وتخيّلات، ويلمّعون صور قيادات وزعامات وشخصيات، هي الأكثر تأثيراً في العالم، وكلّهم لا يمونون على شيء في تسيير شؤونهم ومواكبة وإدارتها، والدفاع الحقيقي الفعلي عن مستقبلهم، والمشهد يشهد في أرض الواقع وأمام التصرّفات والمواقف الإسرائيلية.
حرّك دم الفلسطينيين وصبرهم العالم نحو حلّ الدولتين، بينما تحرّك العرب في اتجاه نزع السلاح
المسؤولون الإسرائيليون الذين لا يتوقّفون عن التشهير بألمانيا لأنها علّقت بيع الأسلحة لإسرائيل، وهي الدولة الأكثر التزاماً بها، وتخضع منذ المحرقة لابتزاز مفتوح، وتدفع الأموال والشركات الإسرائيلية موجودة في أراضيها… هؤلاء المسؤولون لا يقفون عند السؤال: لماذا فعلت ألمانيا ذلك؟ مطلبهم أن تقف كلّ الدول معهم من دون نقاش، ممنوع انتقاد تصرّفاتهم وسلوكهم. والسبب الوحيد الذي دفع قادة دول للحديث عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين، المجازر، الإبادة الجماعية، قتل الأطفال والنساء إعداماً وهم يركضون نحو لقمة عيش تصل إلى أرضهم، أو ترمى عليها من الطائرات فيصطادهم الإسرائيليون. ما يجري في غزّة فاق كلّ التصوّرات، ويبقى أبرز التطوّرات الدموية الدراماتيكية المسيطرة على المشهد الدولي. كلّ ما قدمته بريطانيا منذ “وعد بلفور” (1917)، وفرنسا ودول أوروبية أخرى وألمانيا، غير كافٍ ولا يعطي مشروعيةً أو حقّاً لأيّ من قادة هذه الدول أن ينتقد ممارسات إسرائيل أو يدافع عن حقوق شعب فلسطين في العيش الكريم وإقامة دولة على أرضه انسجاماً مع قرارات الشرعية الدولية. لسان حال نتنياهو والزمرة المحيطة به يقول أولاً: عليهم أن يعرفوا أننا مُؤتمَنون على رسالة إلهية ووعد إلهي، ونحن نقوم بواجبنا. وهذا ما كشف عنه نتنياهو في كلامه الأخير. ثانياً: على القادة الجدد أن يتذكّروا أن السياسة الإسرائيلية منذ القادة الأوائل لم تتغيّر، ونحن مستمرّون على نهج الأسلاف.
فرنسا على سبيل المثال لا الحصر ردّت على إهانات نتنياهو (وغيره)، وعلى تهديد أحد الحاخامات رئيسها إيمانويل ماكرون بالقتل بقرار لافت: “السلطات الفرنسية أوقفت تجديد تأشيرات العمل لأفراد أمن شركة طيران العال الإسرائيلية العاملين في باريس بسبب الحرب على غزّة”. وأعلن رئيس وزراء أستراليا: “سنعترف بالدولة الفلسطينية في الجمعية العامّة للأمم المتحدة”. فردّ عليه رئيس دولة الاحتلال إسحاق هرتسوغ: “إنها مكافأة للإرهاب وجائزة لأعداء الحرية”. لجنة باسم العرب طلبت منذ مدّة زيارة السلطة الفلسطينية في الضفة فمُنِعت. العرب يقدّمون كلّ الإشارات والمبادرات والتنازلات، وبعضهم يمنح التأشيرات ويقيم الشركات ويعقد اللقاءات (العلنية وغير العلنية) مع ممثلي نتنياهو من مسؤولين أمنيين وسياسيين، ولا يمونون على شيء.
حرّكت الحرب على غزّة العالم نحو “حلّ الدولتَين”، دم الفلسطينيين وصبرهم وجبروتهم وإيمانهم وتمسّكهم بأرضهم هو السبب، ولم يتحرّك العرب إلا في اتجاه نزع السلاح، فتنتهي المسألة: لا دولة فلسطينية. لا وجودَ فلسطينياً في أرض فلسطين. ثمة دولة واحدة حدّد حدودها (غير النهائية) نتنياهو. ولا أيّ سلاح في مواجهتها.
المصدر: العربي الجديد