
تشكلت الدولة الحديثة في الغرب عبر عملية تدريجية وعلى مدار زمن طويل وعبر صراعات متعددة المستويات، وفي الماضي، نشأت في أماكن أخرى من العالم نماذج عدة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، حيث وجدت الجماعات المتفرقة، في بعض الظروف، أن خطر الغزاة مهدد لوجودها، فاضطرها ذلك إلى الاتحاد دفاعًا عن وجودها ومصالحها، أو كان ذلك نتيجة لإرادة زعيم تلك الجماعة، وبالتالي تشكلت وحدات جديدة أكبر في مكان يمكنها الدفاع عنه.
اليوم، لم تعد المطالبة باتباع النموذج الأوروبي في بناء الدولة ونظامها السياسي تفهمًا لتجربة تاريخية مختلفة، بل أصبحت اشتراطات يتوجب على دول وحكومات العالم أن تتبعها سعيًا للاعتراف والقبول.
تشير تجارب معظم الدول إلى أنها نشأت نتيجة للقسر والتفوق العسكري لجماعة على جماعات أخرى، حيث يكون وجود سلطة مركزية ورئاسة واحدة هو علامة أساسية لبدايات تشكل الدولة، ومن دونها لا وجود لدولة، بل لجماعات تتقاسم السلطة كلٌّ في مكانه، أما مسألة ممارسة العنف ووظيفته ومشروعيته، فتصبح سؤالاً مشروعًا بعد تأسيس الدولة، وليس قبل نشوئها، حيث تبدأ عملية توزيع السلطة ضمن الدولة المركزية القائمة (حتى الفيدرالية تكون ضمن دولة مركزية)، لكن توزيع السلطة في بلد لم تتشكل دولته عبر مؤسسات بعد هو مقدمة لتقسيم الدولة والبلاد.
استلمت السلطات الجديدة بلدًا مفككًا تنخره الانقسامات الطائفية، بفعل طبيعة السلطة الأسدية التي تمأسست على شبكات الولاء داخل طائفة محددة (العلويين)، احتكرت مواقع القرار الفعلي من خلال أجهزة الأمن والجيش، بينما أُنيطت واجهات سلطوية بنخب سنية ورجال أعمال وزعامات دينية وقبلية.
في سوريا اليوم، التي تشير معظم الوقائع واتجاهات الصراع وتغيراته إلى أن الانقسام المهيمن فيها هو الانقسامات الطائفية، وهذا لا ينفي وجود انقسامات أخرى أو مستويات أخرى من الصراع، فهي دائمًا قائمة، ولا بد من أخذها في الحسبان عند تحليل أي ظاهرة اجتماعية، لكن ثمة عامل يهيمن بين فترة وأخرى تبعًا لظروف عديدة، محلية ودولية. ومن الضروري البحث عن نموذج آخر غير النموذج القائم على العقد الاجتماعي في تأسيس الدولة الحديثة، لا يقوم على المحاصصة الطائفية والإثنية، فما حدث في العراق المجاورة يوفر مثالًا واضحًا للفوضى التي قد تنتج عن اتباع مثل ذلك النموذج.
استلمت السلطات الجديدة بلدًا مفككًا تنخره الانقسامات الطائفية، بفعل طبيعة السلطة الأسدية التي تمأسست على شبكات الولاء داخل طائفة محددة (العلويين)، احتكرت مواقع القرار الفعلي من خلال أجهزة الأمن والجيش، بينما أُنيطت واجهات سلطوية بنخب سنية ورجال أعمال وزعامات دينية وقبلية. هذا التوزيع الطائفي للسلطة لم يكن بعيدًا عن مكونات المعارضة التي انزلقت، في بعض جوانبها، إلى إعادة إنتاج منطق المحاصصة والتمثيل الطائفي، وكانت في بعض الأحيان أحد أسباب تشظيها أكثر، فثمة شخصيات وتيارات تعارض جديًا نظام الأسد، لكنها بكل تأكيد – على عكس ادعاءاتها بالديمقراطية والمواطنة المتساوية – تشترط بقاء السلطة في أيدي “جماعتها”. باختصار، كانت سوريا الأسد حطامًا بكل معنى الكلمة.
تعرضت الجماعة الأكبر، بحكم تكوين البلاد، لمظالم مختلفة ولأشكال من “الإبادة” خلال ثورة 2011، ولعنف معمم، على عكس تعامل النظام الواعي مع بقية المعارضين ومناطق المعارضة الأخرى، إذ يجري اعتقال المعارضين فقط، ولا تُقصف مناطقهم. اليوم، مع قيادة هيئة تحرير الشام السلطة، التي باتت تُعد من قبل شرائح واسعة من أبناء هذه الجماعة أنها ممثلة لمصالحهم، وتنظر إلى نفسها بأنها لها الأحقية في احتكار السلطة، نتيجة التضحيات التي قدمتها، ما عمق الطابع الهوياتي للصراع، الذي يتجلى في أشكال عدة من خلال تشكيل أركان الدولة الأساسية (الجيش)، إضافة إلى الخطاب الذي يشير، في أكثر من مرة، إلى “نحن ونا” الدالة على الجماعة (“دمشق لنا إلى يوم القيامة”). من دون تعريف لماهية الجماعة، وخاصة كونها أصبحت السلطة التي يتوجب تقديمها باسم الكل (السوريين)، يغدو التفسير الطائفي هو الأقرب.
في المقابل، وسط هذا الصراع على إعادة تشكيل الدولة، يبرز الصراع الذي تقوده الجماعات والطوائف الأخرى كجهات تقاوم السلطات، تعبيرًا عن عمق الانقسامات وفرصة للمحافظة على امتيازات موهومة، حيث تتناقل سرديات شفوية وأخرى مكتوبة تروي تاريخهم بوصفهم أصحاب قيم غائبة عن غيرهم (أصحاب الكرامة ورموز التحرر والسلم)، ويذهب البعض بعيدًا حتى إنه يطلب تشكيل كيانات خاصة تحت يافطات الحداثة، بما تحمله من قيم الحريات والديمقراطية والمدنية والعلمانية، والمفارقة أنها تحت زعامة الطائفة وشيوخها، التي يباركها حتى “نخبها” العلمانية التي تدعي رفضها للطائفية، وتطالب بحيادية الدولة. الواضح أنه، وفقًا لتصورات النخب تلك، لا تتجلى الطائفية سوى لدى “السنّة”، أما بقية الطوائف، فهي مثال للتقدم والحداثة، وهو ما يعبّر بصدق عن مدى بؤس الوعي السياسي وزيف الأيديولوجيا، حيث تبرز أيضًا الأنا الطائفية طاغية. باختصار، تغلبت الطائفة على الأيديولوجيا!
الركن الأساسي في تشكيل الدولة يعتمد على إقرار الدول بالحدود، وقبول المجتمع الدولي لمؤسساتها، وهي الرؤية التي اتبعتها السلطة الجديدة بغية ترتيب الوضع الداخلي، لكن عمق الانقسامات الطائفية والإثنية وتضارب المصالح الدولية حول شكل سوريا الجديدة، جعل هذه الرؤية استراتيجية مشوبة بكثير من المخاطر، فأمام الانقسام الجغرافي القائم اليوم والمدعوم بانقسام أعمق طائفي وإثني، مع رعاية أجنبية له تحت بند حماية الأقليات الاستعماري، تظهر مسألة مهمة: هل من فرصة لإعادة بناء الدولة في سوريا المعروفة بحدودها منذ قرن من الزمن؟
لتجاوز خطر الصراع الطائفي وما يجلبه من كوارث خبرها السوريون جيدًا، فإن عملية العدالة والمصالحة الانتقالية الواسعة هي الطريقة الوحيدة لمنع “الفائزين” من السعي للانتقام، واستعادة درجة من تماسك النسيج الاجتماعي.
لا بد من فرض السلطة المركزية أولًا على كامل تراب سوريا، وهذا الفرض لا يعتمد على العنف فقط، بل يجب استخدام كل الوسائل السياسية والدبلوماسية، ولهذا الهدف أثمان قد تكون باهظة، لكن لا بد منها. فمن دون سلطة مركزية، لا وجود لدولة، بل لإمارات موزعة خاضعة لتدخلات الأجنبي ومصالحه وتناحراته. وهذا لا يعني تجاهل أو رفض مطالب الجماعات وتخوفاتها، لكن لا بد من إدراك أن مصالحها ومطالبها لا يمكن أن تتحقق إلا ضمن دولة تحكمها سلطة واحدة، حيث تغدو جميع المطالب والمطالبة بها أمرًا مشروعًا وضروريًا. ومن ناحية أخرى، لا بد من استبعاد منطق الاستفراد في الحكم، بل يجب أن تكون جميع المجموعات قادرة على المشاركة بشكل مفيد في صنع القرار والمساهمة في تشكيل إعادة بناء الدولة والبلد.
ولتجاوز خطر الصراع الطائفي وما يجلبه من كوارث خبرها السوريون جيدًا، فإن عملية العدالة والمصالحة الانتقالية الواسعة هي الطريقة الوحيدة لمنع “الفائزين” من السعي للانتقام، واستعادة درجة من تماسك النسيج الاجتماعي، حيث لا يمكن لأي مشروع وطني أن يقوم على الرغبة في الانتقام أو إعادة إنتاج الهيمنة الطائفية، هذا المشروع الذي لا يمكن أن يتأسس من دون دولة تبسط سلطتها على كامل أراضيها، توفر المجال لحياة سياسية عمادها الديمقراطية وحكم القانون.
لدينا الآن فرصة لوضع حد لسنوات من الطائفية، ولإعادة بناء دولة تسعى لتأمين حياة حرة وكريمة وتؤسس لهوية وطنية مشتركة تحتوي الهويات الفرعية، وتجعل منها عنصر تنوع وغنى، لا عنصر تفتيت وتدمير كما يجري اليوم، وهذا يتطلب الحفاظ على الحريات الأساسية أولًا والحياة السياسية، وهي مهمة الحكومة والمجتمع. فإعادة بناء الدولة تستلزم وجود مجتمع سياسي، والعكس أيضًا.
المصدر: تلفزيون سوريا
كان هروب طاغية الشام وسقوط الدولة ومنظومتها، لتجد السلطات الجديدة بلدًا مفككًا تنخره الانقسامات الطائفية، ومناطقية ، بفعل طبيعة السلطة الأسدية المتأسسة على الولاء للطائفة (العلويين) ومنها للعائلة (الأسدية)، ولتجاوز هذه الإنقسامات لا بد عملية العدالة والمصالحة الانتقالية الواسعة كطريق وحيد.