
تذكير وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بأولويات وثوابت بلاده في سوريا، التي تحاول تجاوز المرحلة الانتقالية، يوجز الانزعاج التركي من محاولات بعض الأطراف في الداخل والخارج استغلال الممارسات الإسرائيلية، والبناء عليها لطرح بدائل سياسية وأمنية على خط السويداء – شرق الفرات.
فيدان في دمشق للمرة الثالثة خلال تسعة أشهر، وهناك من يسعى إلى الاستقواء بالخروقات والتهديدات الإسرائيلية، ومحاولة قلب الطاولة وطرح مقايضات سياسية وميدانية، تتعارض مع التعهدات المقدمة لحكومة الشرع، والمفترض أن تسهم في دعم استرداد سيطرتها على كامل الأراضي السورية.
يحذّر فيدان مجددًا، وهو في طريقه إلى العاصمة السورية، قيادات “قسد” من المماطلة في تنفيذ اتفاقيات آذار الماضي، ومحاولة استغلال ما يجري في جنوبي سوريا، ويدعو المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة والعواصم الأوروبية، إلى الالتزام بتنفيذ التعهدات المتعلقة بالتصدي لمحاولات استهداف سيادة سوريا ووحدتها.
فيدان في دمشق مجددًا، ليس فقط لمناقشة هذه الملفات، بل أيضًا لبحث سبل التعامل مع إصرار تل أبيب على تجاهل التفاهمات الثلاثية الأميركية – التركية – السورية بشأن المسار السياسي، ولمواجهة مشروع فرض معادلة جغرافية – ديمغرافية إسرائيلية على خط جنوبي سوريا – شرق الفرات.
المقلق لأنقرة اليوم هو سعي إسرائيل، بدعم بعض العواصم الأوروبية، إلى دفع واشنطن للتراجع عن سياستها السورية. لكن الأكثر إزعاجًا هو المؤشرات التي تُظهر احتمال تخلّي المبعوث الأميركي توم باراك عن التعهدات التي قدّمها لدمشق في مسارها الإقليمي الجديد، المرتبط بتفاهمات تتعلق برؤية “الشرق الأوسط المغاير” التي تسعى واشنطن إلى رسم معالمه قبل نهاية الولاية الحالية للرئيس ترمب.
تسعى تركيا إلى أن تكون جاهزة لكل هذه الاحتمالات، التي ستُطرح وتُناقش في أكثر من مكان داخل سوريا وخارجها. تجاهل إدارة ترمب للتوازنات الجديدة في سوريا ومحيطها الإقليمي، وسقوطها في المصيدة الإسرائيلية التي تهدف إلى تفكيك الخرائط ثم إعادة تركيبها بما يتماشى مع مصالحها، لن يعرقل فقط خطط بناء سوريا الجديدة، بل سيؤدي إلى انهيار الفرص الإقليمية التي تبحث عنها واشنطن، ويعيد الجميع إلى نقطة البداية في أواخر تشرين الثاني الماضي.
ليس من عادة المؤسسات الرسمية التركية نشر تقارير أو أبحاث تتعلق بأنشطتها العسكرية والاستخباراتية. فما دلالات تعميم بحث علمي مفصل نشرته أكاديمية الاستخبارات التركية قبل أيام حول مجريات حرب الـ12 يومًا بين إيران وإسرائيل، والدروس التي استخلصتها أنقرة من كل ذلك؟ وكيف نُفسّر تصريحات وزارة الدفاع التركية بأن “قسد” لا تلتزم ببنود اتفاقية العاشر من آذار الموقعة مع دمشق، وأن الوقت قد حان لتذكيرها بضرورة تنفيذ تعهداتها؟
فيدان في دمشق مجددًا، ليس فقط لمناقشة هذه الملفات، بل أيضًا لبحث سبل التعامل مع إصرار تل أبيب على تجاهل التفاهمات الثلاثية الأميركية – التركية – السورية بشأن المسار السياسي، ولمواجهة مشروع فرض معادلة جغرافية – ديمغرافية إسرائيلية على خط جنوبي سوريا – شرق الفرات، مع سعي “قسد” لاستغلال هذه الفرصة.
تسعى إسرائيل إلى تحويل الملف السوري إلى أزمة مفتوحة على أكثر من سيناريو واحتمال، متجاهلة كل الجهود الهادفة إلى التهدئة الإقليمية التي تشمل سوريا. فماذا ستفعل أنقرة، التي راهنت على المبعوث الأميركي باراك لإيجاد مخرج سياسي مناسب لم يظهر إلى العلن بعد؟ وما موقفها من الحراك الفرنسي الجديد، الذي يسعى لفرض “لا مركزية مطاطة” ونظام تحاصص بيروقراطي تستفيد منه “قسد”، بانتظار اللحظة المناسبة لفرض فدراليتها؟
لقد تحوّلت “التسويات” في سوريا، من أدوات مرحلية لإدارة الأزمة، إلى ملامح ثابتة تُعيد تشكيل معالم الدولة والمجتمع والسيادة.
تتجنب دمشق الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة ومكلفة مع إسرائيل، لكن أنقرة تدرك جيدًا أن تل أبيب لن تترك سوريا وهي تحاول إعادة بناء الدولة. فيدان في دمشق لحسم أحد السيناريوهات المطروحة: مطالبة القيادة السورية أنقرة بالتدخل العسكري المباشر عند الطلب. هذا الخيار من بين الخيارات القليلة المتبقية على خط أنقرة – دمشق، في مواجهة الاستفزازات الإسرائيلية.
فيدان في العاصمة السورية لوضع اللمسات الأخيرة على ميثاق التعاون الدفاعي المرتقب بين تركيا وسوريا، والذي يهدف إلى ضمان مصالح البلدين ضمن شراكة استراتيجية تأخذ في الحسبان التحولات السياسية والأمنية التي يشهدها الشرق الأوسط.
يبعث فيدان من دمشق رسالة علنية واضحة وموجزة: دخل التعاون العسكري بين أنقرة ودمشق مرحلة جديدة، متجاوزًا كل الخلافات القديمة مع نظام الأسد، والمصالح المشتركة والظروف الإقليمية وتوازناتها هي التي تقرب بين الطرفين. على إسرائيل بعد الآن مراقبة ورصد التنسيق العسكري التركي – السوري بقلق متزايد. ردها عبر جنوبي سوريا ومحاولة إقناع “قسد” بالالتحاق بمخططها تحت ذريعة حماية أمنها القومي، لن يواجهه الرفض التركي – السوري وحده، بل العربي والإقليمي أيضًا. انفتاح الشرع على موسكو مهم حتمًا، لكنه لن يصل إلى درجة البحث عن موازنة العلاقات بين روسيا وأميركا. فجسور العلاقات التي مُدت على خط دمشق – واشنطن بدعم عربي وتركي تذهب بهذا الاتجاه أيضًا. لكن تفريط أميركا لصالح تل أبيب بهذه الفرص لن يعوضه لها مواقف وممارسات تل أبيب، خصوصًا وأن باراك يذكرنا بين الحين والآخر بخطط بناء شرق أوسط تعم فيه التسويات والتفاهمات التي ترضي كل الأطراف المؤثرة في الإقليم.
تحاول تل أبيب منذ أشهر تقويض النفوذ التركي في سوريا من خلال محاصرة أنقرة إقليميًا. فشلت محاولاتها في شرق المتوسط، وفي الملف القبرصي، والأوروبي، والفرنسي تحديدًا. واليوم، يبدو أنها تريد أن تجرّب حظها منفردة على الساحة السورية، متجاهلة الحراك العربي – التركي – الأميركي. فهل يمنحها تعنت بعض الفاعلين في الجنوب، وتمسك آخرين في شرق الفرات بمكاسبهم، ما تريده؟
كيف ستتصرف “قسد” مثلًا في المرحلة المقبلة على طريق إعادة التموضع، بعد تحييد ورقة “حزب العمال الكردستاني” من المشهد التركي؟ وهل ستتمكن من الحفاظ على أوراقها التفاوضية في مواجهة دمشق، لا سيما فيما يخص المطالبة بتعديلات على مذكرة التفاهم الموقعة في 10 آذار بين الرئيس الشرع ومظلوم عبدي، بناءً على توصيات مؤتمر القامشلي الكردي؟
تعبّر “الأفوريزما” في السياق الأكاديمي عن فكرة مركّبة تُصاغ بأقل عدد من الكلمات، وتنطوي على تأمل أو نقد أو حكمة ذات بعد إنساني أو معرفي، وتُستخدم لنقل خبرة أو ملاحظة حول الحياة أو المجتمع أو السلطة.
لقد تحوّلت “التسويات” في سوريا، من أدوات مرحلية لإدارة الأزمة، إلى ملامح ثابتة تُعيد تشكيل معالم الدولة والمجتمع والسيادة.
“الأفوريزما السورية” لم تعد مجرد توصيف لحالة مركبة، بل باتت نموذجًا في هندسة الواقع السياسي، حيث تتداخل الضرورات مع الحسابات، وتُختصر الحلول في موازين قوى متحركة.
وإذا ما أُريد لسوريا أن تنهض مجددًا، فعليها أن تنتقل من “أفوريزما الأزمة” إلى “دوكترين الدولة” حيث تكون الشراكة لا التقسيم، والسيادة لا التجزئة، والتسويات الحقيقية لا المجتزأة.
المصدر: تلفزيون سوريا