
شكّلت حلب، خلال ما يزيد على أربعة عشر عاماً مضت، عقدة حقيقية بين النظام الأسدي وقوى الثورة، سواء في العمل على استقطاب أهلها، أو السيطرة عليها بما فيها من ثروات وإمكانات، وكذلك إدارتها بعد الحرب.
وفي ظل مؤشرات تحمّل المدينة الجزء الأكبر من فاتورة الحرب، من الدمار والتهجير والخسائر الاقتصادية وحتى الضحايا، وبعد مرور تسعة أشهر على تحريرها، وفي ظل الوضع الذي تعيشه المدينة وأهلوها القاطنون والمهجّرون منها، تطفو على السطح شكوك حول الثقة بتوظيف إمكاناتها في تحقيق أوضاع أفضل للمدينة المنكوبة، ومدى توفر الفرصة المستحقة لأبنائها لاستعادة دورهم الطبيعي في حاضر ومستقبل البلاد.
بعد ربيع 2020، تحولت حلب إلى ميدان لصراع نفوذ بين القوى المنتصرة حينئذٍ، مع انحدار شديد في واقع الخدمات، وغياب خطط جدية لإعادة الإعمار، وازدياد تهريب المخدرات والبشر، وترسخ الاعتماد على النفوذ الإيراني.
وفي سردية هذه العقدة، فإن الذاكرة تشي بأنه، وعلى الرغم من انطلاق أولى دعوات التظاهر ضد النظام في شباط من عام 2011 في مدينة حلب، والتي تم وأدها بقبضة وحملة أمنية مشددة، مع سياسات خبيثة ابتدعها النظام لإلباس الشهباء ثوب المدينة المؤيدة، بقي المزاج الثوري ضاغطاً على المدينة وأهلها بتهمة التقاعس عن اللحاق بركب الثورة، متناسين تاريخها النضالي، ودورها الاقتصادي وثقلها الديمغرافي الأهم في البلاد، ومتجاهلين التركيز الأمني الذي فرضه النظام على المدينة، والذي تسبب بخلل أمني عام مكّن المنتفضين والثوار من استغلاله في العديد من المدن والمناطق الأخرى، في مرحلتي السلمية أو الحراك المسلّح.
بعد سنة، وعندما انتظمت حلب في مظاهراتها الربيعية، بالتزامن مع الحملة العسكرية للنظام على ريفها والمناطق المنتفضة، حيث بلغ حراك حلب ذروته في جامعتها، جامعة الثورة – أيار 2012، وتصدّرها الحراك السلمي وتعقيد المشهد أمام النظام ومؤيديه، فوجئ الحلبيون بمعركة نصف تحرير في مدينتهم، أدخلتها دوامة عنف وقصف وتهجير شاملة ومؤلمة، في أسوأ نموذج لحرب المدن، حيث قصف النظام حلب الشرقية بكل أصناف الأسلحة الثقيلة والبراميل، ورزحت المناطق المحررة منها تحت وطأة اقتتال بين الجيش الحر وفصائل إسلامية، وصولاً إلى حصار خانق ضربه النظام على المدينة في صيف 2016، مما أدى في النتيجة إلى عملية تسليمها له قبيل العام 2017.
لقد أدت سنوات الحرب في المدينة إلى قتل وجرح مئات الآلاف، وتدمير ثلثها بشكل شبه كامل، وأضرار جسيمة في ثلث آخر، مع تهجير أكثر من ثلثي سكان المدينة لجوءاً ونزوحاً. كما أن الأضرار الاقتصادية والمادية المباشرة كانت أكبر من أن تُحصى، حيث خرجت عن الخدمة المناطق الصناعية وكثير من مؤسسات الدولة والمراكز الحيوية للاتصالات والتعليم والصحة والمخابز، والبنى التحتية المرتبطة بمحطات وشبكات الكهرباء والمياه والمرافق الأخرى، إضافة إلى عمليات نهب وسرقة منشآت وأموال ومنازل المواطنين على امتداد سنوات الحرب “التشويل”، وبعد إعادة سيطرة النظام عليها “التعفيش”.
لقد وقف النظام عاجزاً تماماً أمام هول نتائج حربه في حلب المنكوبة، وبقيت الحياة غائبة تقريباً عن معظم أحيائها الشرقية، وشهدت أحياء أخرى عودة جزئية للمدنيين وسط دمار هائل، في ظل نفوذ إيراني اقتصادي وديني عبر مؤسسات كانت ذراعاً مدنياً للحرس الثوري الإيراني والميليشيات المدعومة منه. وذلك كله في ظل ازدياد النفوذ “التشبيحي” عبر الاتهامات العشوائية لأجل المال، وتكريس تطبيقات اقتصاد الحرب من الترفيق إلى الأتاوات الدورية على الأوساط التجارية والصناعية المتبقية.
ومع رسوخ خفض التصعيد بعد ربيع 2020، تحولت حلب إلى ميدان لصراع نفوذ بين القوى المنتصرة حينئذٍ، مع انحدار شديد في واقع الخدمات، وغياب خطط جدية لإعادة الإعمار، وازدياد تهريب المخدرات والبشر، وترسخ الاعتماد على النفوذ الإيراني بعد شباط 2022، عندما دخلت روسيا في أتون حرب أوكرانيا، لتأتي سنة 2023 محملة بزلزال أضاف معاناة أخرى إلى سكان المدينة، والتي لم يبذل النظام أي عمل ذي قيمة في التخفيف منها، على الرغم من الدعم الذي تلقاه عربياً ودولياً، مع حملة التطبيع الخليجية، بانتظار تقديمه خطوة تسوية، حاول الرئيس التركي أردوغان الجلوس معه فيها لمعالجة ملفات اللاجئين وقسد والحل السياسي مع المعارضة.
في العام التالي، ومع توسيع دائرة الحرب الإسرائيلية على لبنان وسوريا بنتيجة عملية السابع من أكتوبر “الحماسية” في غزة، كانت المطارات والمناطق العسكرية الحساسة في المدينة على موعد مع حملة قصف إسرائيلية مركزة، وصلت ذروتها مع فوز ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية في الرابع من تشرين الثاني 2024، بالتوازي مع عمليات قصف أميركي عنيفة على طرق إمداد المليشيات الشيعية، الأمر الذي جعل حلب – مع بعض الترتيبات المسبقة والهجمات النوعية – صيداً سهلاً لعملية “ردع العدوان” التي أطلقتها هيئة تحرير الشام في السابع والعشرين من تشرين الثاني 2024، فتحررت المدينة في غضون يومين من العملية، وتحولت الشهباء المحررة بالكامل إلى عقدة ختامية للنظام وأركانه، عقدة لم يستطع تجاوزها في حماة وحمص، وكانت نسخة مسبقة عن طريقة سقوطه وهروبه من دمشق في الثامن من كانون الأول.
إننا بحاجة ماسة اليوم إلى منح الشهباء الفرصة المتناسبة مع حجم خسائرها البشرية والاقتصادية والاجتماعية التي دفعتها، بعيداً عن عقد الماضي وأوهامه، والعمل على إعادة توظيف إمكاناتها في مواجهة تحديات إعادة الإعمار.
وبعد مرور تسعة أشهر على تحريرها، وعلى الرغم من تحسن الوضع الأمني، ولا سيما فيما يتعلق بالحد من السرقات والخطف، وتأمين مادة الخبز واستقرار واقع المواصلات، بقيت شوارع المدينة تشهد عمليات قتل خارج إطار القانون، إلى جانب حديث متواصل عن انحدار في تأدية الخدمات الصحية في المشافي والمستوصفات الحكومية، وحرمان المرضى من تأمين الأدوية منها، وتذبذب وضع الكهرباء، وصعوبة تأمين التدفق اللازم للمياه. ومع استمرار إهمال استعادة البنية التحتية للمناطق الأكثر تضرراً من الحرب في شرق المدينة، تتعرض الصناعة الحلبية لمحنة مصيرية نتيجة لاستمرار فلتان الاستيراد من مختلف السلع الغذائية والنسيجية وغيرها، وتعطيل مؤسسات اقتصادية عامة، الأمر الذي يهدد جهود استعادة الهوية الاقتصادية للمدينة كعاصمة صناعية.
في الوقت نفسه، تتدفق أموال غير معروفة المصدر على سوق العقارات الفوضوي، مع استهدافها مرافق تُستخدم لأنشطة سياحية وتجارية وتسويقية وريعية، مع استمرار حالة الفوضى في سوق العملات والتسعير واستشراء الدولرة، الأمر الذي تسبب بارتفاعات هائلة في مستويات التضخم، ولا سيما في أسعار الشقق السكنية والإيجارات، في ظل غياب لأي مشاريع إسكان أو ترميم للعديد من الضواحي والمناطق القابلة لإعادة التأهيل. إضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع أسعار وإيجارات المحلات والمرافق الحيوية أدى إلى تعطيل انطلاق كثير من المشاريع الصغيرة الفعالة في قطاع المهن والحرف المختلفة.
هذا الواقع أدى إلى إحجام الآلاف من العائلات الحلبية النازحة واللاجئة عن العودة إلى مدينتهم، بل لوحظت حالة خروج عكسي لمئات من العائلات التي كانت تقطن المدينة، وأخرى خرجت منها مجدداً بعد عودة قصيرة.
إننا بحاجة ماسة اليوم إلى منح الشهباء الفرصة المتناسبة مع حجم خسائرها البشرية والاقتصادية والاجتماعية التي دفعتها، بعيداً عن عقد الماضي وأوهامه، والعمل على إعادة توظيف إمكاناتها في مواجهة تحديات إعادة الإعمار، انطلاقاً من الاعتماد على أبنائها وطاقاتها البشرية الشابة والخبيرة بين الداخل والشتات، وذلك في سبيل استعادة دورها المحوري في الاقتصاد السوري على أساس نموذج للحوكمة المحلية ومشروع وطني شامل لتطبيق اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، وخطة اقتصادية ما زالت مفقودة.
كما أن مؤسسات الدولة الجديدة بحاجة إلى إعادة الثقة بها، بمنح الفرصة أمام كوادر ونخب حلب في لعب دورهم في الحياة السياسية والثقافية والمجتمعية والحقوقية، في إطار آليات عمل واضحة للعدالة الانتقالية، وإعادة صياغة الهوية الوطنية للبلاد بصورة تشاركية وعادلة.
المصدر: تلفزيون سوريا