عتابٌ مستحقٌّ من أجْل جمال عبد الناصر

محمد عبد الشفيع عيسى

كتب الأستاذ محمد عصمت مقالا قصيرا على صفحات «الشروق» الغرّاء يوم الثلاثاء، الثامن عشر من أغسطس 2020، بعنوان «عصر الهيمنة الإسرائيلى»؛ ضمّنه تحليلا مركّزا لبعض جوانب الواقع العربى الراهن التى تم الكشف عنها أو تسليط أضواء عليها بعد التطورات الأخيرة المتصلة بقضية «تطبيع» العلاقات العربية مع إسرائيل، وإضفاء الطابع الرسمى عليها. وبعد أن أفاض الكاتب نسبيا فى ذلك، أضاف فقرة كاملة نورد نصها الحرفى على النحو الآتى:

(كل هذا التغلغل الإسرائيلى فى عالمنا العربى الذى يسعى إلى الهيمنة على كل مقدرات الإقليم لم يكن ليتحقق بكل هذه السهولة لو لم نكن قد ارتكبنا العديد من الأخطاء الكارثية خلال مواجهاتنا مع إسرائيل بدأها عبدالناصر بالطنطنة الفارغة حول إلقاء إسرائيل فى البحر دون أن يكون مستعدا عسكريا والتى انتهت بهزيمة 67 المذلة، ثم إعلانه أنه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» للاستمرار فى تأسيس مرحلة جديدة من نظامه الديكتاتورى بدلا من التبشير بقيم ديمقراطية شعبية فى مصر كانت ستنتقل بالضرورة لكل الدول العربية للمشاركة فى صنع القرار السياسى، ثم إعلان السادات بعد انتصارات 1973 أن حرب أكتوبر هى آخر الحروب، وأن أمريكا تمتلك 99% من أوراق اللعبة فى الشرق الأوسط، نهاية بغزو صدام حسين للكويت).

وإنه لموقف محمود من «الشروق» حقا أن تدع مزيدا من الزهور تتفتح فى حقل الحياة الثقافية؛ وهو ما شجعنى أن أسهم بهذا النصيب من نثر زهرة أخرى أو نحوها، وإن كان ذلك أقرب إلى العتاب منه إلى أى أمر آخر؛ فما أظن أن بينى وبين أحد من كتّاب «الشروق» ما يدعو إلى غير ذلك فى حال خلاف الرأى، أو اختلافه، إن وُجد.

وهو عتاب أى عتاب، فإن لم يكن العتاب من أجل جمال عبدالناصر، فمن أجل مَنْ غيره يا تُرى يكون..؟ وقد أجِدُنى فى هذا المقام أستعيد بيتا من الشعر العربى عاتبنى به الراحل الكبير الأستاذ محمد حسن الزيات، حينما كنت كتبت منذ أعوام بعيدة، فى أواسط الثمانينيات، مقالا فى «الأهرام» أظنه بعنوان (طه حسين ومشروع التحديث الغربى: المأزق والمخرج)؛ وقد وجد فيه الأستاذ الزيات، عاشق طه حسين وصِهْره، ما يستحق عتابا بل وربما لوما، ذاكرا من بين ما ذكر، ضِمْن ردّه على صفحات الأهرام أيضا، هذا البيت من الشعر:

لا تظلموا الموتى وإن طال المدى… إنّى أخاف عليكم أن تلتقوا

فهذا إذن هو جمال عبدالناصر، الذى تعرّض، فى ظنى الشخصى، لظلم ممتد عبر خمسين عاما، منذ وفاته، بالتمام، ولم يزل. وما بالك إن أتى الظلم من أحد ممّنْ لا يُصنّف عدوّا لجمال عبدالناصر، ولكأنّى أستعيد فى هذا المقام من جانبى بيتا آخر من الشعر العربى القديم:

وظلمُ ذوى القُربَى أشدّ مضاضةً… على النفس من وقْع الحسام المُهنّدِ

ولكنه فيما أزعم نقد مكرر متكرر أدلى به على الدوام تقريبا بعض فرقاء الحركة الوطنية المصرية، سيّما فى شقها اليسارى، أعقاب 1967 مباشرة؛ وما أبرّئ نفسى، فقد حدثتنى نفسى بشىء قريب من ذلك حينها، وأنا بعدُ فى مقتبل العمر عضو «قيادى» فى «منظمة الشباب الاشتراكى»، ثم راودنى صواب بعد وفاة جمال عبدالناصر، ولازمنى حتى الآن، وما أخاله يبرح عقلى من بعد.

***

بيْد أنّى أجد من الوفاء لفريضة الصدق أن أتكلم، ولو خالفت فى ذلك نفرا ممن قد أحبّ. وبرغم النَّفَس (العاطفى) والطابع (الأدبى!) الذى أدرك أنّى أكتب به هذه الكلمات اليوم، إلا أنى أفضّل أن أسوق عددا من الحقائق المرتبة وربما «المجرّدة»، التى لا أنكر عروتها الوثقى مع تفضيلاتى الفكرية الخاصة، ربما إيمانا منّى بأنه (لا حياد فى العلم الاجتماعى)، وأن ادّعاء الحياد فى هذا الحقل من الدراسة العلمية، قد يحمل من الرياء أكثر مما يحمل من الصدق فى القول والاستقامة المنهجية.

أولا إن مما يدعو للأسف الشديد القول بأن جمال عبدالناصر هو من بدأ مسلسل الأخطاء الكارثية خلال مواجهاتنا مع إسرائيل. وعلى الضدّ من ذلك تماما، إن جمال عبدالناصر هو من قام برسم خارطة النضال القومى من أجل فلسطين، انطلاقا من الفهم العروبى للانتماء المصرى، منذ فجر ثورة 23 يوليو 1952. وكذا انطلاقا من ضرورات الحركة الوطنية ــ القومية، بدءً بإجلاء القوات البريطانية من منطقة قناة السويس وفق اتفاقية 1954، ثم تأميم القناة 1956. ومن بعد معركة التأميم: مواجهة العدوان الثلاثى البريطانى الفرنسى الإسرائيلى فى نفس العام. وتمت مواجهة «حلف بغداد» الاستعمارى فى العام ذاته، وخوض معركة إقامة الوحدة بين مصر وسوريا فى مطلع 1958 (22 فبراير) وحتى «الانفصال» فى 28 سبتمبر 1961، وما بعده، ومعركة بناء «السد العالى» منذ 1959 على إثر رفض البنك الدولى تمويل مشروع السد. أما خوض معركة التغيير الاجتماعى والتنمية الاقتصادية والتحول الاشتراكى، فذلك عمل مشهود، ابتداء من تشريع «الإصلاح الزراعى» بعد قيام ثورة يوليو بأسابيع قليلة، فى 9 سبتمبر 1952، ومباشرة «البرنامج الخماسى للتصنيع» اعتبارا من 1957 ولحقه وضع وتنفيذ «الخطة الخمسية الأولى» (1960/61ــ 1964/65) التى مهدت لها السبيل قوانين التأميم المتتابعة من أجل وضع «القمم المسيطرة» للاقتصاد الوطنى ووسائل الإنتاج الرئيسية تحت السيطرة العامة للمجتمع تحقيقا لأهداف التحول الهيكلى للاقتصاد، برغم أخطاء شابت تطبيق استراتيجية «إحلال الواردات» وأخطاء عديدة فى التأميم وعثراته المعروفة والمسجلة. ودعْ عنك قيادة مصر عبدالناصر لمعركة الاستقلال الوطنى على الصعيد الدولى، بدءا من انتهاج سياسة «الحياد الإيجابى» ثم «عدم الانحياز»، كقائد عالمى لا يلين، بالمشاركة مع زعماء الحركات الوطنية لإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية طوال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. أما قيادة وتزعم حركة الكفاح ضد الاستعمار فى القارة الإفريقية، وقبل ذلك ومعها كفاح وتضحيات على طريق تثبيت معادلة الأمن القومى العربى لمصر فسجلها كله معروف: مساندة ثورة الجزائر المسلحة طوال ثمانى سنوات (1954ــ1962) وثورة اليمن ضد الاستعمار البريطانى فى الجنوب (1962ــ1967) والثورة اليمنية الكبرى (26 سبتمبر 1962) ومساندة انتفاضات بلدان الخليج العربى ضد الاستعمار القديم طوال الخمسينيات والستينيات، والفاتح من سبتمبر فى ليبيا (1969). ولا ننسى القبول باختيار الشعب السودانى للاستقلال التام (1954) ودعم التيار التحررى فى كل بلد عربى: العراق، لبنان، الأردن، تونس وغيرها. وقيادة الجهد العربى لدعم استقلالية القرار الفلسطينى وخيار المقاومة بعد 1967، مع ما اكتنف كل ذلك من صعوبات وعثرات.

ثانيا: أما بماذا بدأ جمال عبد الناصر؟، فقد قال الأستاذ محمد عصمت إنه بدأ (بالطنطنة الفارغة حول إلقاء إسرائيل فى البحر). ويا أسفاه على ذلك!! فلم (يطنطن) جمال عبد الناصر بمثل ذلك أبدا، وإنما هى (جولدا مائير) رئيسة حكومة الكيان آنذاك من زعمت كذبا أنه قال ذلك، وسرت الفِرْية مسرى النار فى الهشيم خلال الإعلام الدولى والعربى أيضا، حتى خالها الكثيرون حقيقة، وما هى إلا أكذوبة من الأكاذيب. وذكر بعضهم أن من قالها هو السيد /أحمد الشقيرى، الزعيم الفلسطينى، وما قال..! فلِمَ يأتى منّا اليوم من يعيد تكرار ما لم تثبت صحته من مزاعم الدعاية الصهيونية..؟ فعلى الأستاذ محمد عصمت إذن أن يُظهر لنا البيّنة على ما ادّعاه، إن كان لديه عليه من دليل.

ثالثا: (دون أن يكون مستعدا عسكريا) ــ هذا ما يقوله الكاتب عن جمال عبد الناصر. وأكاد أخوض فى بحر النار وأنا أتحدث. فماذا أقول؟ هل أقول إنه كان مستعدا عسكريا وخذله أركان جيشه المقربون؟ وهل أقول إن الجيش المصري لم يخض معركة عسكرية أثناء موقعة العدوان يوم الخامس من يونيو 1967، وإنما انتهت المعركة عسكريا قبل أن تبدأ، حين جرت الضربة الجوية على كل المطارات الحربية المصرية فجر وصباح ذلك اليوم دون قتال؟

وإنى لأعلم كما يعلم الجميع أنه سال حبر غزير حول كل ذلك، ولم يزل يسيل، فما أيسر أن تتهجم على جمال عبد الناصر دون دليل؛ وما الدليل؟ وفى أوراق التحقيقات الرسمية حول وقائع يونيو 1967، وما جرى بعدها، توجد معلومات وفيرة، ولكنه قليل من كثير. والكثير ما قد تحتويه خزائن الأسرار التى لم تفتح على مصاريعها، لأسباب نقدرها على كل حال.

ولقد تحمّل جمال عبد الناصر نصيبه وأكثر، مما حدث، وخاصة فى مجرى الإدارة السياسية للصراع فى تلك الأيام الحاسمة من شهرى مايو ويونيو 1967؛ وهو لم يبرئ ذاته، وما نبرئه، ولكنّا نسعى إلى معرفة الحقيقة، فلا نجازف بالقول إنه لم يكن مستعدا عسكريا، دون أن تتوفر لدينا البينات. ولكن ماذا يفيد القول إنه كان مستعدا أو غير مستعد، وقد جرى ما جرى؟ هذا ما نستكمله فيما يلى.

رابعا: (والتى انتهت بهزيمة 67 المُذلّة).. هذا ما يقوله الكاتب. ومَنْ يا سيدي من القادة العسكريين أو الساسة في التاريخ العالمى من لم يهزم فى معركة يوما من الأيام؟ سيقولون: ولكن هزيمة 67 ليست كأى هزيمة فقد أصابت الوجدان العربى فى الصميم وأوقعت الوطن العربى فى رقدة لا يقوم منها.

هذا ما يقولون؛ ونردّ عليهم فنقول إن الفيصل ليس فى هزيمة القائد على أرض الميدان والمعركة، ولكن إن أُصيب فى وجدانه وإدراكه السياسى فى الصميم. ولقد شعر جمال عبدالناصر وشعرنا معه بالهوان فى لحظة، ولكن لم يشعر هو، ولم يشعر البعض منّا (ونحن منهم) بالمذلة والمهانة، وهيهات علينا الذِلّة، ونحن صامدون..! ولم نكن مُذلّين مهانين، يوم قمنا من بين الأنقاض: يدٌ تبنى ويدٌ تحمل السلاح. وهذا ما نستكمله كالآتى.

خامسا: (ثم إعلانه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» للاستمرار فى تأسيس مرحلة جديدة من نظامه الديكتاتورى..) هذا ما يقوله الكاتب. وحرامُ عليك يا سيدى، حرام..! وهل اكتفى جمال عبدىالناصر برفع ذلك الشعار؟ فمّن الذى أَذِن بإعادة بناء القوات المسلحة، بشريا (حملة المؤهلات) وماديا (السلاح السوفيتى) وتنظيميا، بقيادة الفريق محمد فوزى؟ ومن الذى خطط ونفذ «حرب الاستنزاف» لأكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة بقيادة الشهيد عبدالمنعم رياض ومن خَلَفَه؟ ومن الذى حضّر لحرب صواريخ الدفاع الجوى، لأول مرة ربما، فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، بقيادة الفريق محمد على فهمى؟ والصواريخ المحمولة على الكتف «أرض ــ أرض» المضادة للدروع؟ ومن وضع «الخطة الدفاعية 200» وعملية «جرانيت» لعبور قناة السويس بقيادة لفيف من المقاتلين المنظِّمين من طراز اللواء سعدالدين الشاذلى وغيره؟ ومن أسّس لبناء حائط الصواريخ قبل وفاة جمال عبدالناصر بشهور، ومنْ أشرف على آليات هدم «خط بارليف» الحصين؟

سادسا: وأما قولك (للاستمرار فى تأسيس مرحلة جديدة من نظامه الديكتاتورى) فذلك يذكّرنى بما كنا نقوله بعد 1967 فى غمار مراهقتنا الثورية ــ إن صح التعبير ــ من أنه كان أوْلى بجمال عبدالناصر أن يحذو حذو «ماو تسى تونج»، و«تشى جيفارا» باتباع استراتيجية حرب العصابات، وأين..؟ على أرض الصحراء المكشوفة فى شبه جزيرة سيناء، وليس فى أدغال الصين وكوبا وجبال سييرا ماديرا؟

ولا ندفع بدفوع مشفوعة بأسانيد مدعمة لحالة النظام السياسى آنذاك، والذى هو ابن مجتمعه إلى حد بعيد على كل حال، فما ذلك بالمقام ولا هو المقال. وإن الديكتاتورية ونقيضها «الديموقراطية»، و«معضلة السلطة» عبر التاريخ بشكل عام، ينطبق عليها هنا ما كان يقال فى التراث العربى القديم (ما هكذا تُورَد الإبل). وللحديث بقية لازمة، إن كانت ثمة حاجةٌ توجبها الضرورات.. وسوف تكون.!

المصدر: الشروق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى