البحث عن عقلاء لإنقاذ وطن

عدنان علي

من الواضح أنّ العلاقة بين حكومة دمشق ومحافظة السويداء وصلت إلى طريق مسدود، فلا الحكومة قادرة على بسط سيطرتها على المحافظة وإعادة الأمور إلى نصابها، ولا فعاليات السويداء التي تتصدر المشهد اليومة، قادرة على الاستغناء عن الحكومة، في حين تزداد المسافة بعداً بين الجانبين مع مرور الوقت، من دون أن نشهد حتى الآن مبادرة عمليّة لجسر المواقف، سواء من الداخل السوري أم من الخارج.

ولتوضيح الصورة أكثر، يبدو أنّ المشهد اليوم داخل السويداء بمنزلة “حرب مفتوحة” مع الحكومة، وكل من يتجرّأ على اتخاذ موقف مغاير، يصبح ليس منبوذاً ومعزولاً فقط، بل مطارداً ولا يأمن على حياته.

ولاحظنا كيف أن الرؤوس الحامية، المقربة من الفصائل المحلية المسلّحة والشيخ الهجري، تطارد وتخوّن كل مَن لا يصطف ضد الحكومة، ونشرت بالفعل أسماء بعض هؤلاء وفي مقدمتهم ليث البلعوس، بتهمة التعامل مع حكومة دمشق.

ويستمر التحريض ضد حكومة دمشق، داخل السويداء وخارجها، مع نعتها بكل الأوصاف واتهامها بحصار المحافظة وارتكاب المجازر، في حين رُفع علم الكيان الإسرائيلي غير مرة في ساحات المحافظة، كما جرى ترهيب القاضية ميسون الطويل، كي لا تشارك في لجنة التحقيق بأحداث السويداء التي أعلنت عنها الحكومة.

هذا التجييش ضد الحكومة الذي يشارك فيه ناشطون من خارج سوريا، تحاول الحكومة استيعابه بخطوات متباطئة، مثل إرسال قوافل مساعدات إنسانية، وتشكيل لجنة تحقيق بأحداث السويداء، فضلاً عن محاولات لوقف التجييش الطائفي عبر وسائل الإعلام.

لكنها جهود لم تؤت أُكلها حتى الآن، وما زالت القوى المتشنجة ضد الحكومة داخل المحافظة تستقطب المزيد من القاعدة الشعبية، بعد أن كانت شبه معزولة في بداية الأحداث أو قبلها مباشرة، وهذا تحوّل لا يمكن إغفال مسؤولية الحكومة ولو جزئياً عنه، بسبب “تورّطها” في الدخول إلى السويداء من دون خطة محكمة، محلياً وخارجياً.

والسؤال المطروح اليوم، هو كيف يمكن جسر هذه الفجوة الآخذة في الاتساع بين الجانبين، والتي تستقطب -بلا شك- جمهوراً ليس قليلاً من مؤيدي الحكومة على أساس طائفي، حتى برزت شكاوى عدة من تعرض بعض أهالي السويداء إلى مضايقات في العديد من المحافظات السورية تأثّراً بما يجري من تطورات في الجنوب السوري، ناهيك عن حساسية الوضع بالنسبة للدروز المقيمين في منطقتي جرمانا وصحنايا بريف دمشق.

لقد ظهرت مبادرتان ضعيفتان كمحاولات للعثور على طريق آخر بعيداً عن هذه المواجهة العبثية، التي لا رابح فيها سوى إسرائيل، التي رأت في هذه التطورات ضالتها لاختراق الجسد السوري وتفتيته، بزعم حماية الدروز في سوريا.

غير أنّ ما يعوّل عليه حقاً هو بروز مبادرات من داخل السويداء، تطرح حلولاً عقلانية، تتضمن المطالبة بضمانات لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات، ومشاركة أبناء المحافظة بصورة فعلية في إدارة شؤون محافظتهم، مقابل بسط سيطرة الدولة عليها، وعودة خدماتها ومؤسّساتها، ووقف عمليات التحريض والتجييش، وصولاً إلى ترميم الشرخ الذي حدث، وإعادة بناء العلاقة بين دمشق والسويداء على أسس جديدة قائمة على المشاركة والاحترام، بعيداً عن الخطاب الوطني الإنشائي الذي ثبتت هشاشته عند أول اختبار.

الشعوب العاقلة تتعظ من تجاربها وتجارب الآخرين، حيث يستأثر دائماً أصحاب الرؤوس الحامية بالصدارة في الأزمات، في حين يلوذ العقلاء بالصمت بسبب ترهيب السفهاء لهم..

إن أصوات التعقّل والاتزان التي يجري قمعها اليوم، هي التي ستنتصر في النهاية، لأنّ التحريض والتجييش والتصعيد ليس له أفق، ولا يعد الناس إلا بمزيد من المعاناة والأسى، ولا يأخذ في الاعتبار موازين القوى على الأرض، والمصالح الإقليمية والدولية التي تريد أن ترى سوريا مستقرة، وألا تتحوّل ثانية إلى ساحة للفوضى والاقتتال، وهو ما يهدّد بانهيار الحكومة وسيادة الفوضى، وانزلاق البلاد لأنّ تصبح دولة فاشلة، لا سلطة مركزية فيها، تسيطر عليها فصائل متصارعة على السلطة، وتكون مركز استقطاب لكل المطاردين و”المقاتلين” في العالم، سواء ضد إسرائيل أم الأقليات أم حكوماتهم.

والشعوب العاقلة تتعظ من تجاربها وتجارب الآخرين، حيث يستأثر دائماً أصحاب الرؤوس الحامية بالصدارة في الأزمات، في حين يلوذ العقلاء بالصمت بسبب ترهيب السفهاء لهم، واستهزائهم بهم، لكن في نهاية المطاف، يعود الجميع إلى تبنّي الأفكار ذاتها التي طرحها العقلاء وأصحاب البصيرة وقت الأزمات.

هذا ما حدث خلال الحرب الأهلية في لبنان، حين كانت تعلو في كل طائفة أصوات أمراء الحرب، في حين تتم محاربة الساعين لإنقاذ لبنان وفتح قنوات الحوار وبناء السلم الأهلي.

ليس علينا اليوم إعادة انتاج الحرب في سوريا، كي نصل إلى النتيجة المعروفة سلفاً، وعلى العقلاء ألا يجرّهم حماس هذا الخليط من المشبوهين والمتحمسين ومراهقي السياسة إلى الجبن والصمت، لأنّ سوريا اليوم هي ساحة هشة للفتن، في ظل ضعف الثقة بين مكوناتها ودخول أطراف خارجية -في مقدمتها إسرائيل- على خط زعزعة الاستقرار وتأجيج الخلافات، وصولاً إلى هدفها المعلن في تقسيم البلاد على أسس طائفية وعرقية ومذهبية.

في المقابل، بات من الواضح أنّ على حكومة دمشق إعادة النظر في سياسة الاستئثار بالسلطة، بكل مفاصلها، نحو انفتاح حقيقي على بقية القوى والمكونات، بعد أن ثبت المرة تلو الأخرى، افتقادها للخبرات الضرورية في التعامل مع العديد من الملفات، منها مسألة “الأقليات”، إضافة إلى إسرائيل التي تعتبر “ملفاً” جديداً لدى السلطة الحاكمة اليوم، ولم تكن مدرجة على جدول أعمالها حين كانت تحكم في الشمال السوري.

تعليق واحد

  1. الى أين تسير الأمور بقضية السويداء؟ إنها بمنزلة “حرب مفتوحة” مع الحكومة، وكل من يتجرّأ على اتخاذ موقف مغاير، يصبح ليس منبوذاً ومعزولاً فقط، بل مطارداً ولا يأمن على حياته. الشعوب العاقلة تتعظ من تجاربها وتجارب الآخرين، ويستأثر أصحاب الرؤوس الحامية بالصدارة بالأزمات، في حين يلوذ العقلاء بالصمت بسبب ترهيب السفهاء لهم. هنا يكون دور العقلاء من الطرفين لرأب الصدع.

زر الذهاب إلى الأعلى