لا سبيل للوحدة الوطنية إلا بالحوار وإعادة الإدارة السياسية تقييمها لأدائها

محمد علي صايغ

لم يصدق السوريون سقوط نظام الأسد المدجج بالقوات العسكرية والأسلحة والعتاد والمؤسسات الأمنية التي تتابع حياة الناس على مدار الساعة .. وكانت فرحتهم لا توصف ولا تستطيع اللغة التعبير عما تفاعل في صدور السوريين لحظة إعلان سقوط النظام ، ونال العهد الجديد إجماعاً جماهيرياً قل نظيره .. واستبشر الناس بالمرحلة القادمة ، وبأن معاناتهم وٱلامهم وإذلالهم عقوداً طويلة سيحل محلها مرحلة البناء والإعمار ومرحلة نهوض يتطلعون إليها ويشاركون بها ….
ومع مرور الوقت بدأ القلق يتفاعل في النفوس بالتزامن مع صدور الإجراءات والقرارات التي تستبعد المشاركة الحقيقية للسوريين في صنع القرار .. وجاء إطلاق شعار – والله يسامح من أطلقه – بأن ” من يحرر يقرر ” ليزيد من هواجس الناس وتوجساتهم ، وليتأكد هذا المسار على الصعيد العملي بأن المرحلة الانتقالية يجب أن تتأسس السلطة على ” قاعدة الانسجام ” .. ولتبدأ التعيينات في الوزارات والإدارات على أساس الولاء لا على أساس الكفاءة والخبرة والمعرفة .. ولا المبادرة الى تشكيل حكومة تكنوقراط نوعية المطلوبة اليوم قبل الغد .
بالتأكيد السوريون مجمعون على التحول في دولتهم وتدريجيا إلى دولة تحفظ حرياتهم وكرامتهم ، وتؤمن نهوضاً أقتصادياً وعمرانياً ، وأن يتشارك الجميع في النهوض بالبلد بعد الخراب والدمار الكبير الذي خلفه النظام البائد .. ويدرك السوريون بأن العهد الجديد قد حمل تركة ثقيلة جداً وليس من السهل تجاوز ٱثارها بسهولة ويسر .. لكن الترتيبات التي تؤسس للمرحلة الانتقالية خيبت ٱمالهم ابتداء من المؤتمر الوطني العام الشكلي إلى الإعلان الدستوري الذي تمت صياغته عبر لجنة معينة وتعطي صلاحيات شبه مطلقة للسلطة التنفيذية ، ثم المسارعة بتشكيل مجلس الشعب ( الذي يعتبر اسمه سيء الذكر بالنسبة للسوريين ) ويفترض أن يكون ( البرلمان أو مجلس النواب) كما كان اسمه قبل الحكم الأسدي .. هذا المجلس وعبر اللجنة التي أعدت تصورأ لتشكيلة يقوم عملياً على التعيين لا على أختيار الشعب ليكون فعلاً برلماناً للشعب .
ورغم كل ذلك كانت الغالبية الشعبية تمني النفس بالأمل بالتغيير ، وبالأمل بإعادة النظر بكافة المؤسسات التي تم تشكيلها بعجالة من أجل الحفاظ على الوحدة الوطنية وتماسك الوطن ، وبالأمل في أن يكون لسوريا جيش وطني مهني مهمته الحفاظ على وحدة الوطن وأمنه وأمانه ..
وجاءت أحداث الساحل ومن ثم أحدث السويداء لتكشف مدى العطب الذي يتحكم في مفاصل بنية الإدارة السياسية … لتخلف تلك الأحداث جروحاً عميقة جداً في النسيج الوطني السوري صار من الصعب جداً رتقه أو لملمته بعد أن فجرته أحداث ما جرى في السويداء وما أعقبها من شحن طائفي وتجييش وصل الأمر نتيجة رد الفعل والقتل العشوائي إلى تجاوز كل الخطوط الحمر برفع العلم الإسرائيلي في ساحة الكرامة لتتحول الساحة بعد ما يقارب السنة والنصف من رمز للالتفاف الوطني ومقاومة الاستبداد وشعارات إسقاط النظام القمعي السابق، إلى ساحة لشعارات الانفصال والتبرؤ من الهوية السورية وطلب التدخل الدولي والاستعانة بالكيان الصهيوني .. بالتأكيد لا يتحمل طرف واحد ماجرى من قتل وحرق وكوارث في السويداء ، ولكن غياب الحكمة من قوات الجيش الذي لا زالت بنيته فصائلية ، سواء بالعنف المفرط أثناء تدخله أو بالاستعانة بالعشائر في حرب مفتوحة بين الطرفين كل طرف يحمل الطرف الٱخر المسؤولية عما حصل ، لكن المحصلة أن السوريين بالرغم من رفضهم سلوك الهجري ومن لف لفه من الانفصاليين فإنهم يشعرون أن المسؤولية الأكبر تقع على سلطة الدولة باعتبارها يجب أن تكون الأب الذي عليه أن يستوعب ردود أفعال أبنائه أو جنوحهم .. ولو لم تفعل ما فعلته الفصائل التابعة لقوات الأمن وما فعلته العشائر لكانت الأغلبية في السويداء قد وقفت مع الدولة وقواتها – وكانت أصلاً باغلبيتها ضد ما يطرحه الهجري وضد ارتباطاته المشبوهة – لأن غالبية أهالي السويداء يرون بأنه بدون الدولة وحضورها لا يمكن وضع حد للفوضى وفصائل الهجري وأتباعه .. وبدل أن تستميل الدولة أهلنا في السويداء بسلوكها كسلطة دولة ، حولتهم إلى أعداء للدولة ، وعززت لدى الكثيرين قناعة الانفصال ..
إن الأحداث الأخيرة وما جرته من تبعات داخلية وخارجية تفترض أن تعيد سلطة الدولة حساباتها ، وأن تعيد تقييم كل ما أقدمت عليه من قرارات وتوجهات وأن تتخذ بجرأة وثقة قرارات جديدة لإعادة النظر إن كان في المؤتمر الوطني ليكون مؤتمر تشاركي أو بالإعلان الدستوري وضرورة تعديله ، وفي تعديل الرؤية لمجلس نيابي يقوم على الانتخاب لا على التعيين ، وأن يتم السير الجدي في العدالة الانتقالية ، وأن تشمل كل من تلوثت يده بدماء السوريين أثناء وجود النظام السابق أو في المرحلة الأخيرة بعد التحرير .. والعدالة الانتقالية لا تتحقق بمجرد تشكيل لجان تحقيق وخاصة بالأحداث الأخيرة في الساحل والسويداء ، إذ لا بد أن يشعر الشعب وأسر الضحايا بأن جميع المتورطين بالدم مهما كانت صفتهم يمثلون أمام العدالة ، وأن تجري محاكمات علنية وشفافة وعلى وسائل الإعلام إن لزم الأمر لكشف الحقائق أمام الرأي العام .
وفي هذا الصدد يجب أن تتحمل الإدارة السياسية مسؤولياتها في فتح حوار شامل وشفاف مع أهلنا في السويداء ، وذلك بتشكيل لجنة حوار تفاوضية معتبرة بواسطة وسيط ذو ثقة من الطرفين لإجراء الحوار مع الوجهاء والنخب السياسية في السويداء من أجل احتضان أهالي السويداء وجرهم إلى حضن الوطن وإعادة اللحمة الوطنية ، وقبل ذلك من اللازم المبادرة إلى العمل وبسرعة إلى فتح الشريان الحيوي : طريق دمشق – السويداء ورفع الحصار عن أهلها وإدخال البضائع ومستلزمات الحياة بشكل ٱمن ، لتعزيز الثقة بسلطة الدولة ، وقدرتها على بسط الأمن والأمان لمواطنيها ..
إن قوة الدولة من قوة مواطنيها كافة ، ومن قوة تماسك الجبهة الداخلية ، ولا ينفع أي سلطة قدرتها على الإمساك بخيوط العلاقات الخارجية أو التأييد الخارجي لها … فالخارج لا يعمل إلا لمصالحه ، ويفاوض مع أي سلطة من أجل مصالحة ، ولا يمكن أن يضمن حماية أي نظام إلا بمقدار تقديم التنازلات التي تقدم لحسابه .. والتنازلات تجر تنازلات وتنازلات .. من الطبيعي أن تتحرك السلطة السورية في كل اتجاه خارجي لتوضيح سياستها وتكوين تحالفات من أجل مصلحة وطنها ، ولكن الخارج ووفق التجارب التاريخية لا يمكن أن يشكل أي ضمان لأي سلطة مهما قدمت وأعطت ، وفي أي لحظة وعبر أي توازنات دولية جديدة يمكن أن تعمل على استبدال أي سلطة بسلطة أخرى.. فالضمانة الحقيقية التفاف الشعب كل الشعب حول قيادته ، ومشاركة الشعب في صنع القرارات التي تخصه وتخص مستقبله ، ذلك هو الذي يقوي ويدعم تفاوض القيادة مع الدول ويمنع أي ابتزاز لها لإدراكها أن هذه القيادة لا تفاوض وحيدة منعزلة عن خيار شعبها ، وإنما تفاوض بكل مستويات التفاوض بقوة شعبها .
لا أحد من السوريين يرغب أو يتمنى الإنقلاب على السلطة الحالية أو أن يكون هناك بديل عنها.. ولو أجرت أي مؤسسة إعلامية موثوقة التصويت مثلا على تأييدهم للرئيس السوري أو عدم تأييدهم له ، لجاءت النتيجة بالأغلبية مع بقاء الرئيس رئيساً للسوريين وتمسكهم به ، لكن هذه الأغلبية لا تتمسك بالرئاسة بدافع الرضى الكامل عنها ، وإنما تمسكها بسبب خوفها وخشيتها من الدخول في الفوضى والحرب الداخلية سواء فيما بين فصائل الجيش ومن لف لفهم أو الدخول في حرب طائفية تطحن الجميع ولا يعلم إلا الله مداها ومنتهاها ..
السوريون بعد عقود من العذاب بحاجة إلى لملمة جراحهم ، وحشد الرأي العام من أجل تأسيس الهوية الوطنية بعد أن تم تشويهها ، وإلى تأسيس نظام تشاركي لامركزي إدارياً ، يقوم على الانتخابات الحرة عبر دستور يضمن حقوقهم وحرياتهم ، ويرسخ الاختيار الحر لقياداتهم عبر تداول حقيقي للسلطات المحلية والمركزية ، في نظام ديمقراطي يتأسس على المواطنة المتساوية وقوانين وإجراءات منصفة لجميع السوريين …
3 / 8 / 2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى