سبقت الجولة الحالية من الحوار الكردي – الكردي ثلاث جولات للتفاوض بين فريقين كرديين بينهما ما صنع الحدّاد، المجلس الوطني الكردي السوري، وحزب الاتحاد الديمقراطي، لكن الحوار هذه المرة يأتي بدفع أميركي- فرنسي، ورضى روسي، وغضّ نظر تركي.. ربّما! ولكل طرف مآرب ورؤى ومشاريع.
وعلى الرغم من سرّية الاجتماعات، فقد تسربت عموميّات خطوط التفاوض التي حُدّدت بالملفات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والإدارية. كما سرّبت بعض الأطراف أنباء التوصّل إلى رؤية سياسية، تضمّنت خمس نقاط، منها “سورية دولة ذات سيادة يكون نظام حكمها اتحاديًا فيديراليًا يضمن حقوق جميع المكوّنات”، و”الكُرد قومية ذات وحدة جغرافية سياسية متكاملة في حلّ قضيتهم القومية”، و”الإقرار الدستوري بالحقوق القومية المشروعة، وفق العهود والمواثيق الدولية”، و”تشكيل مرجعية كردية تمثّل جميع الأحزاب والتيارات السياسية وممثلي المجتمع الكردي بسورية”.
يبدو “التنمّر” واضحًا في سقف التوافق بالانفراد في تحديد شكل الدولة المستقبلي، في غياب مجموع السوريين، على مقاس رغائب الطرفين، فسورية المطلوبة “نظام حكمها اتحادي فيديرالي”، ولا يقلّ عنه “التلغيم” للمستقبل في قولهم: “الكُرد قومية ذات وحدة جغرافية سياسية متكاملة في حلّ قضيتهم القومية”! هنا يكمن السؤال اللغز، هل على حساب السوريين يحلّ الكرد قضيّتهم؟ لا أحد ضد الحقوق بكل أنواعها، ولكن أن تُفرض لتكون وقائع أساسية يفنى الكلّ لأجل تحقيقها، فهو ما لا يقرّ به منطق سويّ. ولكن لكلا الطرفين المتفاوضين أسبابه الوجيهة؛ فالمجلس الوطني يملك، كما يقول، ورقة الاعتراف السوري والدولي في تمثيل الكرد تفاوضيًا، وهو ما يتوق إليه حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، في الوقت الذي يسيطر على الأرض منفردًا ومميزًا بالدعم الأميركي، وهو ما يطمح أن يكون المجلس الوطني فيهما ندًّا ببشمركته، وشريكًا بالقرار والمغانم، علمًا أن كليهما يمتح من معين القوى الإقليمية، ما يجعله يستمرّ، على الرغم من فشلهما في تحقيق ما وعدا به جمهور الكرد السوريين المنقسمة رهاناتهم حول المستقبل على الجواد السابق، في الوقت الذي عمل وسيعمل كل منهما على إفشال الآخر، بحثًا عن الصدارة من جهة، وتحقيق نصر سيّال للداعمين، يستثمرون فيه، ما دامت الساحة السورية خاليةً من القول الفصل.
وقد يكون البدء بالتحرّك الدولي – الإقليمي لحلحلة الوضع السوري من الجزيرة السورية، وبإشراف أميركي مباشر، ليس حبًا بالكرد، ولا دعمًا لقضيتهم، إنما يشي بالعمل على بناء كيان قادر على التفاوض، وبذلك يُعَدّ الحوار الكردي – الكردي تهيئة للساحة السورية لما سيأتي، وتأهيلًا لطرفٍ صار أساسيًا في الصراع بعد طول تهميش، يمكن من خلاله تحقيق خرقٍ ما في الوضع السوري سياسيًا.
ما يجري في الساحة الكردية السورية، وبهذا الزخم وبذاك التكتّم، يطلق العنان لأسئلة كثيرة قد تبدأ بـ: كيف تمّ الحوار؟ وما شروطه؟ وما دلالاته؟ وما المعوّل على مخرجاته؟ وهل سيكون بداية تكوين جسم كردي جديد على أنقاض تهشيم الكتلتين الأكبر، ليكون فاعلًا “سوريًا” ذا بعد إقليمي؟ ولن يتوقّف السؤال عند: أين سيذهب؟ وهل يؤسّس لحوار سوري؟ وهل له ارتباط بالمتغيرات الإقليمية؟ وما دور القوى الإقليمية، والخليج العربي منها، وإلامَ تهدف؟ وهل هو توحيد للموقف الكردي وتفعيله في مواجهة واقع متحرّك تستجدّ مشاهده في كل منعطف؟
أمّا أن يكون الحوار كما يقول أطرافه (كرديًا – كرديًا، وتاليًا كرديًا – عربيًا، وثالثًا كرديًا – سوريًا) فدليل على تقديم القومي على الوطني، ويشي بوهم بعض الكُرد وأمنيات حلفائهم، أنهم يرسمون مشهد طاولة الحوار الأخيرة بثلاثة أطراف (نظام – معارضة – أكراد) بدل طرفين (نظام – معارضة)؛ لأنهم سيحصلون على حصةٍ أكبر، ويكون لهم دور فاعل أكثر، ويصبحون بيضة القبّان على موازين القوى الإقليمية والدولية على الساحة السورية، فيكسبون من كل المتفاعلين والفاعلين والمفعول بهم!
يدرك الكرد كغيرهم (في غياب إرادة دولية في تحقيق حلمهم)، أن تقديم كرديّتهم على سوريّتهم لن ينقذهم من سرابية رؤيتهم، أي أن الحلّ القومي لا يمكن أن يكون مرحلة للحل الوطني، بل يؤدي إلى طريقٍ، آخرُ محطاته محاصصة إثنية، تقصم ظهر سورية التي نعرفها، ولا تُنتج إلا مستقبلًا مؤقّتًا أعرج، تغيب عن إطاره الوطنية السورية، وتختفي من مضمونه الديمقراطية والمواطنة.
مثل هذه الحوارات محمولة على نعوشها، ولن يقطف أصحابها تينًا ولا عنبًا، فالكرد كغيرهم كثرة تنظيمات متصارعة وأحزاب مؤدلجة، وتيارات وانتماءات وولاءات وارتباطات إقليمية ودولية. وهم كغيرهم يجترّون تناقضاتهم وتأكلهم صراعاتهم، وتذرّرهم أوهامهم، وتستحكم بهم عواطفهم قبل عقولهم، ولا يجمعهم هدفٌ ولا يوحّدهم مبدأ. وما دامت الإرادة الدولية الفاعلة، إن صدقت، تريد الدولة السورية الموحّدة الديمقراطية، فليكن الحوار في الجزيرة السورية وطنيًا سوريًا بكل ألوانه (العرب والكرد والتركمان والسريان)، وليس كرديًا بينيًّا، إذ لا أحد يمكنه الآن أن يقرّر، لا شكل دولة، ولا إدارة موارد، بغياب إرادة السوريين بكل أطيافهم، فكيف إذا كان الحوار بين إخوة أعداء يمثلون مشاريع الآخرين، وكرد سورية كما بقية السوريين أداة وحسب؟
المصدر: العربي الجديد